الحلقة العاشرة من فوائد الذكر لابن القيم
الفائدة الخامسة والأربعون
الفائدة الخامسة والاربعون :
أن أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطبا بذكره فإنه اتقاه في أمره ونهيه وجعل ذكره شعاره ، فالتقوى أوجبت له دخول الجنة والنجاة من النار وهذا هو الثواب والاجر .
والذكر يوجب له القرب من الله عز وجل والزلفى لديه وهذه هي المنزلة.
* وعمال الآخرة على قسمين : منهم من يعمل على الأجر والثواب ، ومنهم من يعمل على المنزلة والدرجة فهو ينافس غيره في الوسيلة والمنزلة عند الله تعالى ويسابق الى القرب منه .
· وقد ذكر الله تعالى النوعين في سورة الحديد في قول الله تعالى { إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم } فهؤلاء أصحاب الأجور والثواب .
· ثم قال { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } فهؤلاء أصحاب المنزلة والقرب .
· ثم قال { والشهداء عند ربهم } فقيل هذا عطف على الخبر من الذين امنوا بالله ورسله أخبر عنهم بأنهم هم الصديقون وأنهم الشهداء الذين يشهدون على الأمم .
· ثم أخبر عنهم أن لهم أجرا وهو قوله تعالى { لهم أجرهم ونورهم } فيكون قد أخبر عنهم بأربعة امور أنهم صديقون وشهداء وهذه هي المرتبة والمنزلة .
· وقيل تم الكلام عند قوله تعالى { الصديقون} ثم ذكر بعد ذلك حال الشهداء فقال { والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } ؛ فيكون قد ذكر المتصدقين أهل البر والاحسان ، ثم المؤمنين الذين قد رسخ الايمان في قلوبهم وامتلأوا منه فهم الصديقون وهم أهل العلم والعمل والأولون أهل البر والاحسان ولكن هؤلاء أكمل صديقية منهم ، ثم ذكر الشهداء وأنه تعالى يجري عليهم رزقهم ونورهم لأنهم لما بذلوا أنفسهم لله تعالى أثابهم الله تعالى عليها أن جعلهم أحياء عنده يرزقون فيجري عليهم رزقهم ونورهم فهؤلاء السعداء .
· ثم ذكر الأشقياء فقال { والذين كفروا وكذبوا باياتنا أولئك اصحاب الجحيم }
· والمقصود أنه سبحانه وتعالى ذكر أصحاب الأجور والمراتب، وهذان الأمران هما اللذان وعدهما فرعون السحرة إن غلبوا موسى عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى : { فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين* قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين } أي أجمع لكم بين الأجر والمنزلة عندي والقرب مني . فالعمال عملوا على الأجور ، والعارفون عملوا على المراتب والمنزلة والزلفى عند الله.
· وأعمال هؤلاء القلبية أكثر من أعمال أولئك ، وأعمال أولئك البدنية قد تكون أكثر من أعمال هؤلاء .
· وذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي رحمه الله تعالى قال: قال موسى عليه السلام : يا رب ، أي خلقك اكرم عليك ؟
قال : الذي لايزال لسانه رطبا بذكري .
قال : يارب ، فأي خلقك أعلم؟ .
قال : الذي يلتمس الى عمله علم غيره .
قال : يارب ،أي خلقك أعدل ؟ .
قال : الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس.
قال : يارب أي خلقك أعظم ذنبا؟.
قال : الذي يتهمني.
قال : يارب وهل يتهمك أحد؟.
قال : الذي يستخيرني ولا يرضى بقضائي .
· وذكر أيضا عن ابن عباس قال لما وفد موسى عليه السلام الى طور سيناء قال : يارب أي عبادك أحب اليك ؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني.
· وقال كعب قال موسى عليه السلام : يارب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك؟
فقال تعالى : ياموسى أنا جليس من ذكرني .
قال : إني أكون على حال أُجِلُّكَ عنها.
قال: ما هي ياموسى ؟
قال :عند الغائط والجنابة.
قال : اذكرني على كل حال .
· وقال عبيد بن عمير: تسبيحة بحمد الله في صحيفة مؤمن خير له من جبال الدنيا تجري معه ذهبا .
· وقال الحسن : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، أين الذين كانت { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون} قال فيقومون فيتخطون رقاب الناس.
قال : ثم ينادى مناد: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم أين الذي كانت { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } قال فيقومون فيتخطون رقاب الناس .
قال: ثم ينادي مناد : سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم أين الحمادون لله على كل حال ؟ قال : فيقومون وهم كثير. ثم يكون التنعيم والحساب فيمن بقي .
· وأتى رجل أبا مسلم الخولاني فقال له : أوصني يا أبا مسلم . قال : اذكر الله تعالى تحت كل شجرة ومدرة ، فقال : زدني ، فقال : اذكر الله تعالى حتى يحسبك الناس من ذكر الله تعالى مجنونا .
· وكان أبو مسلم يكثر ذكر الله تعالى فرآه رجل وهو يذكر الله تعالى فقال : أمجنون صاحبكم هذا ؟! فسمعه أبو مسلم فقال : ليس هذا بالجنون يابن أخي ولكن هذا ذو الحنون.