الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أمَّا بعد:
يمضي كثير من الناس أوقاتهم ما بين المقاهي والطرقات والشوارع ووسائل اللهو، بل في ردهات المصالح العامة والخاصة ينتظرون مرسوماً أو معاملة أو مراجعة تخصهم بلا شيء يفعلونه ، ولا فائدة يستفيدونها ...
ونجد آخرين، قليلي الانتفاع بأوقاتهم، وفوضويين في الإفادة من ساعات زمنهم، فلا جدول يضعونه لكي ينظموا وقتهم، ولا خطَّة يرسمونها لكي تتضح لهم أعمالهم، مع التقصير الشديد في المحافظة على الوقت والاهتمام به.
لقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" أخرجه البخاري من حديث ابن عبَّاس ـ رضي الله عنهما ـ في كتاب الرقائق برقم:(6412).
لكنَّنا نجد أنَّ كثيراً من الناس لا يعطون لهاتين النعمتين (الصحة والفراغ) قدرهما، ويولونها الاهتمام والرعاية، وإنه ليحزٌنني كثيراً حين نشاهد أناساً يبقون بلا شيء يستثمرونه في ساعات الانتظار، أو صالات الاستقبال، أو سيارات الأجرة، أو أوقات السفر، أو حالة جلوسهم في بيتهم تجد أحدهم(يفشُّ) غلَّه بأولاده وزوجته بكثرة (البهادل) و(الشتائم) و(الصياح)، ثمَّ يشكون قائلين: بأنَّ حياتهم قاتلة ومملَّة غير سعيدة!
هذا (الإنسان الفارغ) يعيش بلا هدف في حياته، ولا غاية مرضيَّة، بل نجد أنَّ حياته مملَّة أشبه بالروتين القاتل، حيث يقضي بعض الناس على أنفسهم بهذا الفراغ، ويجعلهم يجيدون فنون التثاؤب والكسل ، ومن أشكال الملل والهم والغم الشيء الكثير.
نعم ! ليس هنالك وقت نستطيع أن نسميه وقت فراغ، ولكنَّ حالة الشخص هي حالة الفراغ، فالعادة أنَّ الإنسان منذ أن ينتهي من عمل يقوم بأداء عمل آخر ينشغل به، لكنَّ هذا ليس هو الإشكال، بل المشكل أن يكون المرء غير مستثمرٍ لوقته، ومستغل لدقائق عمره.
وفي الطرف الآخر نجد مقابل المضيعين لوقتهم، أولئك القوم المهتمين بأوقاتهم من العلماء والمصلحين والمفكرين ورجالات الأعمال الناجحين، الذين يقدِّرون قيمة الوقت، وساعة الزمن، فيخرجون من هذه الدنيا، وقد ملؤوها علما أو حكمة أو مشاريع بنَّاءة، يترضى عنهم الناس زمنا بعد زمن.
ولو دقَّقنا التأمل في سيرتهم لوجدنا أنَّهم ما كانوا يضيعون ثانية تضيع من أوقاتهم هدرا ، فالإمام المجد بن تيمية يطلب من خادمه أن يقرأ عليه كتاباً وهو في داخل الخلاء (دورة المياه) حرصاً على وقته!
وذاك الشيخ يقرأ وهو يمشي حتى إنَّه قد ارتطم بجدار فمات أو سقط في حفرة وهو لا يشعر!
والإمام ابن القيم يؤلِّف كتابين وهو في السفر من أروع ما ازدانت بهما رفوف المكتبات، وانتفع بهما طلبة العلم، وهما: (بدائع الفوائد) و( زاد المعاد)!
والإمام السرخسي يسجن فيؤلِّف كتاباً حافلاً في الفقه الحنفي، واسمه المبسوط) ويقع في أكثر من ثلاثين مجلدا.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يسجن فيجلس لتعليم الناس أمور دينهم، ويؤثر عليهم حتَّى أنَّ بعض اللصوص تابوا على يديه وصاروا من الصالحين!
وذاك العابد يمضي وقته في الاستغفار والتسبيح، ورجل الأعمال الصالح يبني المساجد ويعين المحتاج ويغيث الملهوف...
إنَّها أوقات عاشها هؤلاء القوم وقد تكون ضائعة إن لم تستغل، إلاَّ أنَّ المفلحين الناجحين الذين يعرفون أنَّ للوقت قيمة كبيرة، وأنَّه أنفاس لن تعود، وأنَّ الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وأنَّ الوقت ليس من ذهب فحسب بل هو ذهاب شيء من عمر الإنسان فهو الحياة ، لهذا أدركوا قيمة الوقت فلم يدعوه يذهب هباءً منثوراً، وقد علِمُوا أنَّ من لم يستغله بمرضاة الله فسيندم على التفريط به، وقد قال ـ تعالى ـ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنَّها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) سورة المؤمنون:(99 ـ 100).
يحدِّث الصحابي الجليل أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ فيقول: قلت : يا رسول الله : أيُّ الأعمال أفضل ؟ قالالإيمان بالله والجهاد في سبيله) قال: قلت: أيُّ الرقاب أفضل؟قالأنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً)قال: قلت: فإن لم أفعل ؟ قالتعين صانعاً أو تصنع لأخرق)قال:قلت:يا رسول الله : أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟قالتكفُّ شرَّك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك)أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (1/62)(والأخرق:هو الذي ليس بصانع ، يقال: رجل أخرق وامرأة خرقاء لمن لا صنعة له).
إنَّ في هذا الحديث لعبرة وذكرى لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فليت بعض الناس حالة فراغهم يقتصرون على ذلك فلا لهم ولا عليهم، ولكن أن يستزيدوا على أنفسهم بهذا الفراغ من السباب والشتائم والغيبة والنميمة والكلام في أعراض الناس، أو بأنماط التفكير السلبية التي تزرع الهم والنكد، أو الانشغال بأحاديث جانبيَّة ضررها أكثر من نفعها..
إنَّ هذا الحديث يعلمنا كيف أنَّه لو لم يستطع بعض الناس أن يقدموا الخير للآخرين ويزرعوا لهم بذور الخير ليقتطفوها، فخير لهم أن يكفوا أذاهم وشرَّهم على الناس، وهذا مع شديد الأسى حالة كثير من الناس اليوم فهم مع ضعف استغلالهم لوقتهم، يستثمرونه بما لا يرضي الله تعالى، وصدق من قال:
لقد هاج البلاء عليه شغلا *** وأسباب البلاء من الفراغ
• ليت أنَّ الوقت يباع ويشترى:
كنت أقرأ في ذكريات الأديب الشيخ علي الطنطاوي ـ رحمه الله ـ فذكر عن الشيخ جمال الدين القاسمي ـ عليه رحمة الله ـ أنَّه مرَّ بشباب يلهون ويضيعون أوقاتهم بالحرام فقال : ليت أنَّ الوقت يباع ويشترى لاشتريت منهم أوقاتهم، تحسراً على ذهاب وقت بعضهم دون أن يستفيد منه، وتمنياً لكثرة أشغاله فيما لو كان الوقت يباع ويشترى لاشترى من هؤلاء وقتهم !!
وحقاً فالوقت درَّة ثمينة ، وجوهرة مصونة، وساعة ستفوت ، ونبتة قد تذبل ، وسعة قد تضيق ، فإن لم نحسن استغلاله فسيأتينا اليوم الذي نسأل فيه عن وقتنا وعمرنا فيم أفنيناه، ونشعر عندها بكمية الوقت الهائل الضائع الفائت الذي لم نستغله أحسن استغلال، أو أن نكتسب من خلاله مهارات جديدة تضفي على ما لدينا من مهارات وطاقات أفكاراً جديدة، وأساليب متنوعة، ولهذا فإذا أردنا أن نستفيد من مهاراتنا، فلنسأل أنفسَنا عدَّة أسئلةٍ قبل البَدْءِ بذلك:
1) هل اكتشفنا المهارات التي في داخلنا؟
2) هل نريد أن نحرِّك مهاراتنا ونستخدمها في مجريات حياتنا؟
3) ما السبيل الصحيح لاستخدام هذه المهارات؟
ولهذا فليس من المهم أن يكون الشخص دكتوراً أو أستاذاً أو طبيباً أو نجَّارا ويؤدي مهنته فحسب، بل عليه أن يطوَّر من مهاراته وأن يتعلَّم دروساً في التنمية الذاتية، والرقي النفسي، وإلاَّ فإنَّ الأساليب تختلف وتتنوع، كما أنَّ طرق العمل تحتاج لتقويم للأداء، ودراسة للجدوى، لكي يعلم المرء هل كان أداؤه للعمل مهنياً أو احترافياً أو كان أداؤه ضعيفاً مهلهلاً ولو كان يفني وقته بذلك العمل.
وممَّا يُحكى في هذا أن حطاباً كان يجتهد في قطع شجرة في الغابة ولكن فأسه لم يكن حاداً لأنَّه لم يشحذه من قبل، وأثناء عمله مرَّ عليه شخص ما فرآه على تلك الحالة، وقال له: لماذا لا تشحذ فأسك؟ قال الحطاب وهو منهمك في عمله: ألا ترى أنني مشغول في عملي؟!
مع أنَّ ذلك الحطَّاب كان بإمكانه أن يشحذ فأسه، وأن يسنَّه جيداً لكي يعطي عمله عطاء أكثر وأكبر، ولكنَّ روح التكاسل وغياب تقويم العمل، جعله يقول لصاحبه بأنَّه مشغول، وهو في حقيقة أمره كما لو أنَّه يحرث في البحر!
إنَّ علينا أن ندرك حقيقة مهمة وهي أنَّ الواجبات التي افترضها الله علينا ستكون على قدر ما عشناه في وقتنا وزمننا، وأنَّ من الخطأ أن نقول:إنَّ الواجبات أكثر من الأوقات، فالله تعالى لا يكلِّف نفساً إلا وسعها، ورسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخبرنا فيقولاكلفوا من العمل ما تطيقون) أخرجه البخاري في كتاب الرقائق برقم: (6100) فالواجبات إذاً ستكون على قدر الوقت الذي يعيشه المرء ويحسن التعامل فيه مع ذاته وذوات الآخرين، فمن كان حريصاً على وقته، وتعامل مع نفسه ومع الناس بحزم ووضوح في ذلك، نال الكثير من مبتغاه ، وحصَّل شيئاً عظيماً من أهدافه، بشرط البعد عن الفوضوية في التعامل مع الوقت، من التسويف في العمل، أو الانشغال (بالأمور المهمَّة) عمَّا هو أهم منها من أصول وجواهر، أو تضييع الساعات الكثيرة دون القيام بعمل مفيد، أو بالجلوس الطويل على التلفاز مديراً لقنواته الكثيرة، دون أن يضبط وقته في ذلك، أو قعوده على شاشة الإنترنت مقلِّباً لصفحاته وقارئاً للأخبار غير مرَّة بدعوى الاهتمام بالأوضاع وأحوال المسلمين، وهو لا يدري أنَّه يضيع وقته دون أن يشعر، وليته بعد هذا أو ذاك قدَّم لأمَّته خدمة يفيدها به بدلاً من مجرد النقد أو كثرة الثرثرة والكلام الذي لا يفيد!
• قم ... واستغل وقتك بالمفيد:
لقد روى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (اغتنم خمساً قبل خمس، وذكر منها: حياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك) أخرجه الإمام أحمد، والبيهقي برقم:(498)، وحسَّنه العراقي في تخريج الإحياء:(5/204) وقال المنذري في الترغيب والترهيب: إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما:(4/203) وصحَّحه الألباني كما في صحيح الجامع برقم:(1077).
وقال الإمام الحسن البصري ـ رحمه الله ـيا ابن آدم إنَّما أنت أيام إذا ذهب يومك ذهب بعضك).
![/color]
يمضي كثير من الناس أوقاتهم ما بين المقاهي والطرقات والشوارع ووسائل اللهو، بل في ردهات المصالح العامة والخاصة ينتظرون مرسوماً أو معاملة أو مراجعة تخصهم بلا شيء يفعلونه ، ولا فائدة يستفيدونها ...
ونجد آخرين، قليلي الانتفاع بأوقاتهم، وفوضويين في الإفادة من ساعات زمنهم، فلا جدول يضعونه لكي ينظموا وقتهم، ولا خطَّة يرسمونها لكي تتضح لهم أعمالهم، مع التقصير الشديد في المحافظة على الوقت والاهتمام به.
لقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ" أخرجه البخاري من حديث ابن عبَّاس ـ رضي الله عنهما ـ في كتاب الرقائق برقم:(6412).
لكنَّنا نجد أنَّ كثيراً من الناس لا يعطون لهاتين النعمتين (الصحة والفراغ) قدرهما، ويولونها الاهتمام والرعاية، وإنه ليحزٌنني كثيراً حين نشاهد أناساً يبقون بلا شيء يستثمرونه في ساعات الانتظار، أو صالات الاستقبال، أو سيارات الأجرة، أو أوقات السفر، أو حالة جلوسهم في بيتهم تجد أحدهم(يفشُّ) غلَّه بأولاده وزوجته بكثرة (البهادل) و(الشتائم) و(الصياح)، ثمَّ يشكون قائلين: بأنَّ حياتهم قاتلة ومملَّة غير سعيدة!
هذا (الإنسان الفارغ) يعيش بلا هدف في حياته، ولا غاية مرضيَّة، بل نجد أنَّ حياته مملَّة أشبه بالروتين القاتل، حيث يقضي بعض الناس على أنفسهم بهذا الفراغ، ويجعلهم يجيدون فنون التثاؤب والكسل ، ومن أشكال الملل والهم والغم الشيء الكثير.
نعم ! ليس هنالك وقت نستطيع أن نسميه وقت فراغ، ولكنَّ حالة الشخص هي حالة الفراغ، فالعادة أنَّ الإنسان منذ أن ينتهي من عمل يقوم بأداء عمل آخر ينشغل به، لكنَّ هذا ليس هو الإشكال، بل المشكل أن يكون المرء غير مستثمرٍ لوقته، ومستغل لدقائق عمره.
وفي الطرف الآخر نجد مقابل المضيعين لوقتهم، أولئك القوم المهتمين بأوقاتهم من العلماء والمصلحين والمفكرين ورجالات الأعمال الناجحين، الذين يقدِّرون قيمة الوقت، وساعة الزمن، فيخرجون من هذه الدنيا، وقد ملؤوها علما أو حكمة أو مشاريع بنَّاءة، يترضى عنهم الناس زمنا بعد زمن.
ولو دقَّقنا التأمل في سيرتهم لوجدنا أنَّهم ما كانوا يضيعون ثانية تضيع من أوقاتهم هدرا ، فالإمام المجد بن تيمية يطلب من خادمه أن يقرأ عليه كتاباً وهو في داخل الخلاء (دورة المياه) حرصاً على وقته!
وذاك الشيخ يقرأ وهو يمشي حتى إنَّه قد ارتطم بجدار فمات أو سقط في حفرة وهو لا يشعر!
والإمام ابن القيم يؤلِّف كتابين وهو في السفر من أروع ما ازدانت بهما رفوف المكتبات، وانتفع بهما طلبة العلم، وهما: (بدائع الفوائد) و( زاد المعاد)!
والإمام السرخسي يسجن فيؤلِّف كتاباً حافلاً في الفقه الحنفي، واسمه المبسوط) ويقع في أكثر من ثلاثين مجلدا.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يسجن فيجلس لتعليم الناس أمور دينهم، ويؤثر عليهم حتَّى أنَّ بعض اللصوص تابوا على يديه وصاروا من الصالحين!
وذاك العابد يمضي وقته في الاستغفار والتسبيح، ورجل الأعمال الصالح يبني المساجد ويعين المحتاج ويغيث الملهوف...
إنَّها أوقات عاشها هؤلاء القوم وقد تكون ضائعة إن لم تستغل، إلاَّ أنَّ المفلحين الناجحين الذين يعرفون أنَّ للوقت قيمة كبيرة، وأنَّه أنفاس لن تعود، وأنَّ الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وأنَّ الوقت ليس من ذهب فحسب بل هو ذهاب شيء من عمر الإنسان فهو الحياة ، لهذا أدركوا قيمة الوقت فلم يدعوه يذهب هباءً منثوراً، وقد علِمُوا أنَّ من لم يستغله بمرضاة الله فسيندم على التفريط به، وقد قال ـ تعالى ـ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنَّها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) سورة المؤمنون:(99 ـ 100).
يحدِّث الصحابي الجليل أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ فيقول: قلت : يا رسول الله : أيُّ الأعمال أفضل ؟ قالالإيمان بالله والجهاد في سبيله) قال: قلت: أيُّ الرقاب أفضل؟قالأنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً)قال: قلت: فإن لم أفعل ؟ قالتعين صانعاً أو تصنع لأخرق)قال:قلت:يا رسول الله : أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟قالتكفُّ شرَّك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك)أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (1/62)(والأخرق:هو الذي ليس بصانع ، يقال: رجل أخرق وامرأة خرقاء لمن لا صنعة له).
إنَّ في هذا الحديث لعبرة وذكرى لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فليت بعض الناس حالة فراغهم يقتصرون على ذلك فلا لهم ولا عليهم، ولكن أن يستزيدوا على أنفسهم بهذا الفراغ من السباب والشتائم والغيبة والنميمة والكلام في أعراض الناس، أو بأنماط التفكير السلبية التي تزرع الهم والنكد، أو الانشغال بأحاديث جانبيَّة ضررها أكثر من نفعها..
إنَّ هذا الحديث يعلمنا كيف أنَّه لو لم يستطع بعض الناس أن يقدموا الخير للآخرين ويزرعوا لهم بذور الخير ليقتطفوها، فخير لهم أن يكفوا أذاهم وشرَّهم على الناس، وهذا مع شديد الأسى حالة كثير من الناس اليوم فهم مع ضعف استغلالهم لوقتهم، يستثمرونه بما لا يرضي الله تعالى، وصدق من قال:
لقد هاج البلاء عليه شغلا *** وأسباب البلاء من الفراغ
• ليت أنَّ الوقت يباع ويشترى:
كنت أقرأ في ذكريات الأديب الشيخ علي الطنطاوي ـ رحمه الله ـ فذكر عن الشيخ جمال الدين القاسمي ـ عليه رحمة الله ـ أنَّه مرَّ بشباب يلهون ويضيعون أوقاتهم بالحرام فقال : ليت أنَّ الوقت يباع ويشترى لاشتريت منهم أوقاتهم، تحسراً على ذهاب وقت بعضهم دون أن يستفيد منه، وتمنياً لكثرة أشغاله فيما لو كان الوقت يباع ويشترى لاشترى من هؤلاء وقتهم !!
وحقاً فالوقت درَّة ثمينة ، وجوهرة مصونة، وساعة ستفوت ، ونبتة قد تذبل ، وسعة قد تضيق ، فإن لم نحسن استغلاله فسيأتينا اليوم الذي نسأل فيه عن وقتنا وعمرنا فيم أفنيناه، ونشعر عندها بكمية الوقت الهائل الضائع الفائت الذي لم نستغله أحسن استغلال، أو أن نكتسب من خلاله مهارات جديدة تضفي على ما لدينا من مهارات وطاقات أفكاراً جديدة، وأساليب متنوعة، ولهذا فإذا أردنا أن نستفيد من مهاراتنا، فلنسأل أنفسَنا عدَّة أسئلةٍ قبل البَدْءِ بذلك:
1) هل اكتشفنا المهارات التي في داخلنا؟
2) هل نريد أن نحرِّك مهاراتنا ونستخدمها في مجريات حياتنا؟
3) ما السبيل الصحيح لاستخدام هذه المهارات؟
ولهذا فليس من المهم أن يكون الشخص دكتوراً أو أستاذاً أو طبيباً أو نجَّارا ويؤدي مهنته فحسب، بل عليه أن يطوَّر من مهاراته وأن يتعلَّم دروساً في التنمية الذاتية، والرقي النفسي، وإلاَّ فإنَّ الأساليب تختلف وتتنوع، كما أنَّ طرق العمل تحتاج لتقويم للأداء، ودراسة للجدوى، لكي يعلم المرء هل كان أداؤه للعمل مهنياً أو احترافياً أو كان أداؤه ضعيفاً مهلهلاً ولو كان يفني وقته بذلك العمل.
وممَّا يُحكى في هذا أن حطاباً كان يجتهد في قطع شجرة في الغابة ولكن فأسه لم يكن حاداً لأنَّه لم يشحذه من قبل، وأثناء عمله مرَّ عليه شخص ما فرآه على تلك الحالة، وقال له: لماذا لا تشحذ فأسك؟ قال الحطاب وهو منهمك في عمله: ألا ترى أنني مشغول في عملي؟!
مع أنَّ ذلك الحطَّاب كان بإمكانه أن يشحذ فأسه، وأن يسنَّه جيداً لكي يعطي عمله عطاء أكثر وأكبر، ولكنَّ روح التكاسل وغياب تقويم العمل، جعله يقول لصاحبه بأنَّه مشغول، وهو في حقيقة أمره كما لو أنَّه يحرث في البحر!
إنَّ علينا أن ندرك حقيقة مهمة وهي أنَّ الواجبات التي افترضها الله علينا ستكون على قدر ما عشناه في وقتنا وزمننا، وأنَّ من الخطأ أن نقول:إنَّ الواجبات أكثر من الأوقات، فالله تعالى لا يكلِّف نفساً إلا وسعها، ورسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخبرنا فيقولاكلفوا من العمل ما تطيقون) أخرجه البخاري في كتاب الرقائق برقم: (6100) فالواجبات إذاً ستكون على قدر الوقت الذي يعيشه المرء ويحسن التعامل فيه مع ذاته وذوات الآخرين، فمن كان حريصاً على وقته، وتعامل مع نفسه ومع الناس بحزم ووضوح في ذلك، نال الكثير من مبتغاه ، وحصَّل شيئاً عظيماً من أهدافه، بشرط البعد عن الفوضوية في التعامل مع الوقت، من التسويف في العمل، أو الانشغال (بالأمور المهمَّة) عمَّا هو أهم منها من أصول وجواهر، أو تضييع الساعات الكثيرة دون القيام بعمل مفيد، أو بالجلوس الطويل على التلفاز مديراً لقنواته الكثيرة، دون أن يضبط وقته في ذلك، أو قعوده على شاشة الإنترنت مقلِّباً لصفحاته وقارئاً للأخبار غير مرَّة بدعوى الاهتمام بالأوضاع وأحوال المسلمين، وهو لا يدري أنَّه يضيع وقته دون أن يشعر، وليته بعد هذا أو ذاك قدَّم لأمَّته خدمة يفيدها به بدلاً من مجرد النقد أو كثرة الثرثرة والكلام الذي لا يفيد!
• قم ... واستغل وقتك بالمفيد:
لقد روى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (اغتنم خمساً قبل خمس، وذكر منها: حياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك) أخرجه الإمام أحمد، والبيهقي برقم:(498)، وحسَّنه العراقي في تخريج الإحياء:(5/204) وقال المنذري في الترغيب والترهيب: إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما:(4/203) وصحَّحه الألباني كما في صحيح الجامع برقم:(1077).
وقال الإمام الحسن البصري ـ رحمه الله ـيا ابن آدم إنَّما أنت أيام إذا ذهب يومك ذهب بعضك).
![/color]