هذا مقال طويل وجاد، يلزم لاستيعابه قراءته عدة مرات، .. ذلك أنه يؤسس لكيفية تذوق جماليات القرآن الكريم.. وهو عرض لكتاب "التصوير الفني في القرآن الكريم" الذي حاول فيه سيد قطب أن يضع أيدينا على مفاتيح بلاغة القرآن الكريم، وتوصل إلى قاعدة "التصوير الفني" التي سار عليها في تفسير "الظلال" الذي شهد تطبيق هذه النظرية..
لقد استحوذ القرآن على العرب وأجمع الكل على الانبهار به: المؤمنون به والكافرون.. اضطرب له الوليد بن المغيرة ولم يؤمن، فيما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الفور. لقد نظر البعض في جملة مزاياه ثم أجابوا، لكن هذا لا يفسر انبهارهم بقلائل السور التي لم يكن فيها تشريع ولا غيب ولا علوم.. في عصر الصحابة تحرجوا من تفسيره واهتموا بالعمل به.. وفي عصر التابعين نما التفسير نموًّا مضطردًا، ولكنهم كانوا يقتصرون على توضيح المعنى اللغوي، ثم أخذ البحث يغرق في مباحث فقهية وجدلية ونحوية وصرفية وتاريخية وأسطورية بدلاً من البحث عن الجمال الفني الأصيل فيه.. وتفاقم الأمور سوءًا في عصور الانحطاط.
وفي كل الأحوال فإن إدراكهم لمواضع الجمال بقي متفرقًا دون أن يصلوا إلى مرحلة إدراك الخصائص العامة أو الأسلوب الموحد.. هذا الشيء الذي يمكن أن نطلق عليه:
التصوير الفني في القرآن الكريم..
إن لهذا الكتاب طريقة موحدة في التعبير عن مقاصده، سواء كان هذا القصد تبشيرًا أو تحذيرًا، قصة وقعت في الماضي أو حادثًا سيقع في المستقبل، وصفًا للحياة الدنيا أو الأخرى، هذه الطريقة الموحدة هي التصوير الفني في القرآن الكريم.
الصورة في أسمى معانيها
إن التصوير هو الأداة المفضلة في القرآن الكريم فهو يحوّل المعنى إلى صورة فإذا هي تصبح واقعًا أمامك، والأمثلة هي كل القرآن تقريبًا فيما عدا التشريع..
على سبيل المثال: حينما يريد القرآن أن يعبر عن "معنى" أن الكافرين لن ينالوا قبولاً من الله فإنه لا يقولها مباشرة وإنما حولها إلى صورة: "إن الذين كفروا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط..."، والجمل هو الحبل الغليظ، فيدع للذهن البشري أن يتخيل صورة حبل غليظ لا يدخل في فتحة الإبرة الدقيقة مهما حاولت، وبذلك يتأكد المعنى المطلوب حينما تحول من معنى ذهني إلى صورة فنية..
وحينما يريد أن يعبر عن ضياع أجر الكافرين فإنه لا يعبر عنها بطريقة تقريرية وإنما برسم صورة فنية "مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف..."، فيدع للذهن أن يتخيل حركة الريح تذرو الرماد فيتبدد بددًا..
ويريد أن يقول إن الصدقة التي تبذل رياء لا تثمر عند الله فيصورها هكذا "فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا..."، فيرسم لنا الخيال صورة حجر صلب غطته طبقة رقيقة من التراب فظنت فيه الخصوبة، فإذا بوابل من المطر يتركه صلدًا بدلاً من أن يهيئه للخصوبة والنماء.
أما الوجه الآخر فهي الصدقات التي تبذل ابتغاء مرضاة الله فيصورها هكذا: "كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل..."، فالوابل مشترك في الحالتين، ولكنه في الحالة الأولى يمحق ويمحو وفي الحالة الثانية يربي ويخصب.
وإذا أراد أن يقول إن الله وحده يستجيب لمن يدعوه فيما لا تملك الآلهة الثانية شيئًا يجعلها في هذه الصورة: "والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه..."، وهي صورة للحماقة في أجلى صورها.
ويعبر القرآن عن ضياع عمل المشركين بقوله تعالى: "ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق"، وقس على ذلك القرآن كله فيما عدا التشريع، فهو لا يكتفي بذكر المعنى الذي يريده، بل يجعله في صورة مجسمة مرسومة.
التعبير النفسي والمعنوي
وكما استخدم التصوير في المعاني المجردة كالكفر والإيمان والتوحيد والشرك، فإنه استخدمها للتعبير عن حالات نفسية ومعنوية كالآتي:-
فحينما يكون المعنى هو حيرة غير المؤمنين تأتي الآية "ونرد على أعقابنا كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا..."، فليته كان صاحب قصد موحد ولو في طريق الضلال، ولكن هناك على الجانب الآخر من يدعوه إلى الهدى، وهو بين الغواية والدعاء حيران متلفت.
وحينما يعبر عن حالة نفسية مثل تزعزع العقيدة تأتي الآية "ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة..."، وهي صورة ترسم حالة التزعزع بأوضح مما يؤديه لفظ التزعزع؛ لأنها تنطبع في الحس في صورة محسوسة.
أما مشاهد القيامة وصور العذاب والنعيم فقد كان لها من التصوير الفني أوفى نصيب.. فهذا مشهد من مشاهد الحشر "خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا فاسلكوه..."، وكذلك: "يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد" مشهد حافل يموج بالهول لا يقاس بالحجم والضخامة فقط وإنما بوقعه في النفوس.
عدل سابقا من قبل رقية القلب في الخميس ديسمبر 18, 2008 8:23 pm عدل 2 مرات