الحلقة الثانية والعشرون من فوائد الذكر
الفائدة التاسعة والسبعون
قال الإمام ابن القيم في الوابل الصيب
الفائدة التاسعة والسبعون:
قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء .هذا من حيث النظر لكل منهما مجرداً ، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل بل يعينه فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل، وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما ، بل القراءة فيهما منهي عنها نهي تحريم أو كراهة ، وكذلك التسميع والتحميد في محلهما أفضل من القراءة ، وكذلك التشهد ، وكذلك " رب اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني" بين السجدتين أفضل من القراءة ، وكذلك الذكر عقيب السلام من الصلاة كذكر التهليل والتسبيح والتكبير والتحميد أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة ، وكذلك إجابة المؤذن والقول كما يقول أفضل من القراءة . وإن كان فضل القران على كل كلام كفضل الله تعالى على خلقه لكن لكل مقام مقال متى فات مقاله فيه وعُدِلَ عنه إلى غيره اختلت الحكمة وفقدت المصلحة المطلوبة منه .
وهكذا الأذكار المقيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة.
والقراءة المطلقة أفضل من الاذكار المطلقة ، اللهم إلا أن يعرض للعبد مايجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن ، مثاله أن يتفكر في ذنوبه فيحدث ذلك له توبةً من استغفار ، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تحصنه وتحوطه ، وكذلك أيضا قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءة أو ذكر لم يحضر قلبه فيهما ، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله تعالى وأحدث له تضرعاً وخشوعاً وابتهالاً ،فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع ، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرا .
وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفس ، وفرقان بين فضيلة الشئ في نفسه وبين فضيلته العارضة ، فيعطي كل ذي حق حقه ، ويوضع كل شيء موضعه : فللعين موضع وللرجل موضع ، وللماء موضع ولِلَّحْمِ موضع. وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي . والله تعالى الموفق.
· وهكذا الصابون والأشنان أنفع للثوب في وقت ، والتجمير وماء الورد وكيُّه أنفع له في وقت ، وقلت لشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يوما : سئل بعض أهل العلم أيهما أنفع للعبد التسبيح أو الاستغفار؟ فقال إذا كان الثوب نقياً فالبخور وماء الورد أنفع له ، وان كان دنِسا فالصابون والماء الحار أنفع له . فقال لي رحمه الله تعالى : فكيف والثياب لا تزال دنسة؟!.
· ومن هذا الباب أن سورة { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القران ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث والطلاق والخلع والعِدَدِ ونحوها بل هذه الآيات في وقتها وعند الحاجة إليها أنفع من تلاوة سورة الإخلاص .
· ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه ، كانت أفضل من كل من القراءة والذكر والدعاء بمفرده ، لجمعها ذلك كله مع عبودية سائر الأعضاء.
· فهذا أصل نافع جدا يفتح للعبد بابَ معرفة مراتب الأعمال وتنزيلها منازلها ، لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها فيربح إبليس الفضل الذي بينهما ، أو ينظر إلى فاضلها فيشتغل به عن مفضولها إن كان ذلك وقته ، فتفوته مصلحته بالكلية ، لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثوابا وأعظم أجراً .
· وهذا يحتاج إلى معرفةٍ بمراتب الأعمال وتفاوتِها ومقاصدِها ، وفقهٍ في إعطاء كل عمل منها حقه ، وتنزيلِه في مرتبته ، وتفويتِه لما هو أهم منه ، أو تفويتِ ما هو أولى منه وأفضل لإمكان تداركه والعودِ إليه ، وهذا المفضول إن فات لا يمكن تداركه فالاشتغال به أولى-وهذا كترك القراءة لرد السلام وتشميت العاطس- وإن كان القرآن أفضل ، لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول والعود إلى الفاضل، بخلاف ما إذا اشتغل بالقراءة فاتته مصلحة رد السلام وتشميت العاطس .وهكذا سائر الأعمال إذا تزاحمت . والله تعالى الموفق.