الحلقة الخامسة عشر من فوائد الذكر – الفوائد من 61-65
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله في الوابل الصيب
الفائدة الحادية والستون :
أن الذكر يعطي الذاكر قوة حتى إنه ليفعل مع الذكر مالم يظن فعله بدونه. وقد شاهدت ( أي ابن القيم رحمه الله ) من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه و إقدامه وكتابته أمرا عجيبا فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعةٍ وأكثر ، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرا عظيما.
وقد علم النبي ابنته فاطمة وعليا رضي الله عنهما أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثا وثلاثين ويحمدا ثلاثا وثلاثين ويكبرا أربعا وثلاثين لما سألته الخادم وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة ، فعلمها ذلك ، وقال : إنه خير لكما من خادم ، فقيل أن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه تغنيه عن خادم .
وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يذكر أثرا في هذا الباب ويقول : إن الملائكة لما أُمِروا بحمل العرش قالوا: ياربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ؟
فقال: قولوا لا حول ولا قوة الا بالله ، فلما قالوا حملوه ، حتى رأيت ابن ابي الدنيا قد ذكر هذا الأثر بعينه عن الليث بن سعد عن معاوية بن صالح قال : حدثنا مشيختنا أنه بلغهم أن أول ماخلق الله عزوجل حملة العرش حين كان عرشه على الماء قالوا : ربنا لم خلقتنا ؟ قال : خلقتكم لحمل عرشي قالوا : ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك؟ قال : لذلك خلقتكم ، فأعادوا عليه ذلك مرارا ، فقال لهم: قولوا لا حول ولا قوة الا بالله فحملوه .
وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة وتحمل المشاق والدخول على الملوك ومن يخاف ركوب الأهوال، ولها أيضا تأثير في دفع الفقر ؛ كما روى ابن أبي الدنيا عن الليث بن معاوية بن صالح عن أسد ابن وداعة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال لاحول ولا قوة الا بالله مائة مرة في كل يوم لم يصبه فقرا أبدا .
وكان حبيب بن سلمه يستحب إذا لقي عدوا أو ناهض حصنا أن يقول لاحول ولا قوة الا بالله ، وإنه ناهض يوما حصنا للروم فانهزم فقالها المسلمون وكبروا فانهدم الحصن
الفائدة الثانية والستون:
أن عمال الآخرة كلهم في مضمار السباق والذاكرون هم أسبقهم في ذلك المضمار ولكن القترة والغبار يمنعان من رؤية سبقهم ، فاذا انجلى الغبار وانكشف رآهم الناس وقد حازوا قصب السبق.
قال الوليد بن مسلم : قال محمد بن عجلان : سمعت عمر مولى غفرة يقول: إذا انكشف الغطاء للناس يوم القيامة عن ثواب أعمالهم لم يروا عملا أفضل ثوابا من الذكر فيتحسر عند ذلك أقوام فيقولون ما كان شئ أيسر علينا من الذكر .
وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سيروا سبق المفردون ، قال الذين اهتروا في ذكر الله تعالى يضع الذكر عنهم أوزارهم.
اهتروا بالشئ وفيه : أولعوا به ولزموه وجعلوه دأبهم ز
وفي بعض ألفاظ الحديث : المستهترون بذكر الله ، ومعناه : الذين أولعوا به ؛ يقال : استهتر فلان بكذا اذا ولع به ، وفيه تفسير آخر : أن اهتروا في ذكر الله أي كبروا وهلك أقرانهم وهم في ذكر الله تعالى ؛ يقال : اهتر الرجل فهو مهتر اذا سقط في كلامه من الكِبَرِ ، والهتر: السقط من الكلام كأنه بقي في ذكر الله تعالى حتى خرف وأنكر عقله.
والهتر : الباطل أيضا ؛ ورجل مستهتر : إذا كان كثير الأباطيل ؛ وفي حديث ابن عمر: أعوذ بالله أن أكون من المستهترين ، وحقيقة اللفظ أن الاستهتار الإكثار من الشيء والولوع به حقاً كان أوباطلا وغلب استعماله على المبطل ، حتى إذا قيل فلان مستهتر لا يفهم منه إلا الباطل ،وإنما إذا قيد بشيء تقيد به نحو مستهتر وقد اهتر فى ذكر الله تعالى أي أولع به وأُغريَ به ، ويقال : استهتر فيه وبه
وتفسير هذا فى الأثر الآخر: أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقال : مجنون.
الفائدة الثالثة والستون :
أن الذكر سبب لتصديق الرب عز وجل عبده فإنه أخبر عن الله تعالى بأوصاف كماله و نعوت جلاله ، فإذا أخبر بها العبد صدَّقَهُ ربه ، ومن صدقه الله تعالى لم يحشر مع الكاذبين ورُجِيَ له أن يحشر مع الصادقين.
وروى أبو اسحق عن الأغر بن أبى مسلم أنه شهد على أبى هريرة وأبى سعيد الخدرى رضى الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا قال العبد لا إله إلا الله و الله أكبر قال : يقول الله تبارك وتعالى : صدق عبدى لا إله إلا أنا وأنا أكبر.
وإذا قال : لا إله إلا الله وحده قال : صدق عبدى ؛ لا إله إلا أنا وحدى.
و إذا قال : لا إله إلا الله لا شريك له ، قال: صدق عبدى؛ لا إله إلا أنا لا شريك لى.
و إذا قال : لا إله إلا الله له الملك وله الحمد ، قال:صدق عبدى ؛لا إله إلا أنا لى الملك ولى الحمد
و إذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، قال : صدق عبدى؛ لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بى
قال أبو اسحق : ثم قال فى الآخر شيئا لم أفهمه ، قلت لأبي جعفر : ما قال؟ قال: من رزقهن عند موته لم تمسه النار.
الفائدة الرابعة والستون :
أن دُورَ الجنة تبنى بالذكر فإذا أمسك الذاكر عن الذكر أمسكت الملائكة عن البناء .
ذكر ابن أبي الدنيا في كتابه عن حكيم بن محمد الأخنسي قال : بلغني أن دور الجنة تبنى بالذكر فإذا أمسك عن الذكر أمسكوا عن البناء، فيقال لهم فيقولون : حتى تأتينا نفقة .
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من قال سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم سبع مرات بني له برج في الجنة .
وكما أن بناءها بالذكر فغراس بساتينها بالذكر كما تقدم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن إبراهيم الخليل عليه السلام أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، فالذكر غراسها وبناؤها .
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أكثروا من غراس الجنة . قالوا : يارسول الله وما غراسها؟ قال : ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله .
الفائدة الخامسة والستون :
أن الذكر سدٌّ بين العبد وبين جهنم فإذا كانت له إلى جهنم طريق من عمل من الأعمال كان الذكر سدا في تلك الطريق فإذا كان ذكرا دائما كاملا كان سدا محكما لا منفذ فيه و إلا فبحسبه ، قال قال عبد العزيز بن أبي رؤاد: كان رجل بالبادية قد اتخذ مسجدا ، فجعل في قلبه سبعة أحجار كان إذا قضى صلاته قال : ياأحجار أشهدكم أنه لا إله إلا الله ، قال فمرض الرجل فعرج بروحه ، قال : فرأيت في منامي أنه أُمِرَ بي إلى النار ، قال فرأيت حجرا من تلك الأحجار أعرفه قد عظُم فسدَّ عني بابا من أبواب جهنم ثم أُمِرَ بي إلى الباب الآخر وإذا حجر من تلك الأحجار أعرفه قد عظُمَ فسدَّ عني بابا من أبواب جهنم ،حتى سدت عني بقية الأحجار أبواب جهنم.