في علم مصطلح الحديث
شرح الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله
اعتنى به
أبو هاجر النجدي
والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه .
رب زدني علماً، ووفِّق يا كريم.
أما بعد,
قال الشيخُ الإمامُ العالمُ العلاَّمة، الرُّحْلةُ المحقَّق، بحرُ الفوائد، ومَعْدِنُ الفرائد، عُمدةُ الحُفَّاظِ والمحدثين، وعُدَّةُ الأئمةِ المحقَّقين، وآخِرُ المجتهدين، شمسُ الدين محمدُ بن أحمد بنُ عُثمان الذهبيُّ الدمشقي رحمه الله ونفعنا بعلومه وجميع المسلمين:
الشرح
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ..
أما بعد ...
فهذا كتاب الموقظة في علم مصطلح الحديث, وهو مختصرٌ من كتاب الاقتراح, لشيخه ابن دقيق العيد.
والحافظ الذهبي رحمه الله وُلِدَ سنة ثلاثٍ وسبعين وستمائة, واسمه محمد بن أحمد الذهبي. قيل إن والده كان يشتغل ببيع الذهب فنُسِبَ إليه, وقيل هو اشتغل بصنعة الذهب في أول عمره.
له مؤلفاتٌ متعددة في كل العلوم, وقد اشتهر بعلم الحديث, وألَّف فيه عشرات المجلدات, تصنيفاً, وتدقيقاً, وتعليقاً, وتحقيقاً. وكتب في التاريخ مئات المجلدات, فله تاريخ الإسلام, يتجاوز خمسين مجلداً, وله سير أعلام النبلاء, بنحو أربعةٍ وعشرين مجلداً, وله غير ذلك.
وقد أخذ العلم عن شيخ الإسلام بحر العلوم الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى, المولود سنة إحدى وستين وستمائة, المتوفى سنة ثمانٍ وعشرين وسبعمائة.
وقد توفي الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى سنة ثمانٍ وأربعين وسبعمائة.
وكان من ضمن ما ترك من العلم النافع والعمل الصالح: هذا الكتاب, الذي نتناوله بالشرح إن شاء الله تعالى. وهو أحد الكتب المختصرة في علم المصطلح. وعلم المصطلح علمٌ عظيم وعلمٌ مهم, من خلاله وبواسطته وعن طريقه نصل إلى معرفة صحيح الحديث من سقيمه, والمرفوع من الموقوف, والمقطوع من المنقطع, والمدلَّس من غيره, ومن خلاله نميِّز بين مراتب الأحاديث, فإن السنة هي الأصل الثاني, والأصل الأول كتاب الله, والأصل الثاني سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا الأصل لا يتأتى معرفته ولافهمه إلا من خلال هذه الوسائل.
وقد جاء في جامع أبي عيسى من طريق شعبة عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي, فوعاها فأداها كما سمعها, فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع).
ولا يمكن أن يصل الثاني إلى الأول, والثالث إلى الثاني, إلاَّ من خلال طرق ووسائل, لا بد من التعرف عليها, وإلا خلط الحق بالباطل, والصحيح بالضعيف, والموضوع بغيره. ولذلك الذين لا يعرفون في المصطلح شيئاً, ولا يفقهون في علم الحديث, يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم الموبقات, وقد يأخذون من ذلك بعض الأحكام الفقهية, ويبنون على ذلك حلاً وحرمة, وهذا غلط, فالمصطلح موعظة وتبصرة في مثل هذه الأمور.
قال المؤلف رحمه الله تعالى "بسم الله الرحمن الرحيم":
وهذه طريقة متبعة في مؤلفات العلماء ومصنفاتهم, يستفتحون ذلك بالبسملة, اقتداءً بكتاب الله جل وعلا, وتأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكاتباته ومراسلاته.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم, ولا أحد من الصحابة, يبدأ في المكاتبات والمراسلات بغير البسملة, وكانوا يقتصرون عليها, دون ربط ذلك بالحمدلة. وهذا بخلاف الخطب الكلامية الإنشائية, فإنه يُشرع البداءة بها بالحمدلة, لفعل النبي صلى الله عليه وسلم, وفعل الصحابة رضي الله عنهم من بعده.
وقد جاء في جامع أبي عيسى وغيره من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود, ومن طريق أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا خطبة الحاجة كما يعلمنا السورة من القرآن: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) ثم يقرأ مطلع سورة النساء, وقول الله جل وعلا في آل عمران (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون), والآية الثالثة في الأحزاب (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً).
وأما الجمع بينهما, فهذا مذهب طائفة من العلماء, بحيث يبدأ بالبسملة ويثنِّي بالحمدلة, ولكن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثابت أنه يقتصر على البسملة, كما أنه يقتصر في الخطب الكلامية على الحمدلة دون البسملة, وهذا الأفضل والأكمل.
وأما حديث (كل أمرٍ ذي بال لا يُبدَأ ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع): فهذا قد رواه الخطيب في الجامع, والسبكي في طبقات الشافعية, وفيه اختلاف واضطراب, وتفرد به أحمد بن محمد بن عمران المعروف بابن الجَنَدي, قال عنه الأزهري رحمه الله: ليس بشيء.
وقد أورد ابن الجوزي في كتاب الموضوعات حديثاً في فضائل علي, وحكم عليه بالوضع, وقال: لا يتعدى ابن الجَنَدي.
واللفظ الآخر (كل أمر ذي بال لا يُبدَأ بالحمد فهو أقطع): هذا ضعيف, ولا يصح إلا مرسلاً.
وقد رواه قرة بن عبد الرحمن المعافري عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقرة بن عبد الرحمن, قال عنه الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ليس بشيء. وضعفه يحيى وجماعة.
وقد رواه الحفاظ, عقيل وغيره, عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم, بدون ذكر أبي سلمة وأبي هريرة, وذكرهما غلط, والغلط من قرة بن عبد الرحمن المعافري, فهو سيء الحفظ, ويغلط كثيرا, ولا يُعتمد عليه في مثل هذه الأمور.
ثم ثنى المؤلف رحمه الله تعالى بالحمدلة, والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم, وهذه طريقة جماعة من العلماء ويقال أن هذا من أحد النساخ, وليس من المؤلف.
ثم أثنى الناسخ على الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى. وقد تقدم قبل قليل بأنه وُلِدَ سنة ثلاثٍ وسبعين وستمائة, وتوفي سنة ثمانٍ وأربعين وسبعمائة. وهو إمام معروف, له مؤلفات كثيرة, ومصنفات متعددة.