الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
لا ألذ للمرء المسلم، ولا أجمل من ساعات يقضيها في تأمل آيات الكتاب الحكيم، المنزلة من عند رب العالمين، كيف وهوـ سبحانه وتعالى ـ القائل في محكم التنزيلالله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثمَّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) سورة الزمر:(23) .
ووقوفاً بتأمل لقول الله تبارك وتعالىفاعلم أنَّه لا إله إلاَّ الله ) سورة محمد:(19) فقد نزلت هذه الآية الكريمة على نبينا محمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بعد ثلاث عشرة سنة من دعوته إلى التوحيد ، واستفراغ وسعه في التبليغ والإنذار لكفَّار قريش ومن لفَّ لفَّهم.
ويحقٌّ للمتدبر في كتاب الله ، أن يرجع الفكر والنظر كرَّتين بل كرَّات في تدبُّر هذه الآية ، إذ إنها تأمره ـ عليه الصلاة والسلام ـ بتعلُّم التوحيد ، ومعرفة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ حق المعرفة، مع أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أفضل الأنبياء والمرسلين ، وأعرفهم بربِّ العالمين ، بل هو نفسه قد دعا بهذه الكلمة الكفَّار والمشركين ، كما روى ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه وكان جاهلياً فأسلم، قال: (( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ويدخل في فجاجها والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت، يقول: أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (15448) وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" برقم: ( 834 ).
قال الإمام ابن كثير ـ رحمه الله ـ والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمرّ يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك رادّ، ولا يصدّه عن ذلك صادّ، يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم، ومواقف الحجّ، يدعو من لقيه من حرّ وعبد وضعيف وقويّ، وغنيّ وفقير) البداية والنهاية.
ولعل من الفوائد المستنبطة من قوله تعالىفاعلم أنَّه لا إله إلاَّ الله) المنزلة على نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ بعد ثلاثة عشر عاماً في دعوته إلى التوحيد، لعلَّها تضبط في عدَّة نقاط محورية ، يجدر التنبه لها ، ويحسن تسليط الضوء عليها ، فمنها:
1ـ أنَّ فيها دلالة واضحة في التأكيد على وجوب توحيد الله ومعرفته ، ولو كان الداعية إلى ذلك من كبار الموحدين ؛ لأنَّ النفس لايقوى إيمانها بالله ، ولا تنبعث فيها روح الدعوة إلى الله ، ولا ينقدح بين جوانبها التبيلغ والنذارة لهذا الدين، ولا يقوى ولاؤها لله ، ولا براؤها من أعدائه، ولا تهفو للجهاد في سبيل الله ، إلاَّ إذا كانت دعائم التوحيد فيها راسخة، وصلابة الإيمان في جذورها متعمقة، فينتج من ذلك، قوَّة العمل لهذا الدين ، وعلو الهمة في بثِّه بين أنحاء المعمورة ، وصلابة الإرادة في ذلك ، وقوَّة الصبر على ما تواجهه من مصاعب وعراقيل ، إثر قيامها بالتعليم ، وتبليغ دين رب العالمين.
ولهذا فإنَّ الجهاد في سبيل الله ، لم يشرع عبثاً، بل شرع لحماية ونشر راية(لا إله إلا الله محمد رسول الله) لتكون كلمة الله هي العليا ، ولتحطيم جميع المكابرين الذين يحولون بين دعوة التوحيد وبين الناس ، حتى تصل إليهم بنقائها وصفائها ، وتخلصهم من أدران الوثنية، وشوائب الشرك والعبودية لغير الله ، ويدل عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلَّم ـبعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبَد الله وحده لا يشرك به شيئاً) والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده(7/123ـ125) وجوَّد إسناده ابن تيمية في الاقتضاء ، وحسَّنه ابن حجر، وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر ، والشيخ الألباني ـ رحمهم الله ـ فالغاية من الجهاد تعبيد الناس لربِّ العالمين، والإبقاء على ملَّة إبراهيم حنيفاً مسلماً ، وما كان من المشركين، ممَّا يدل على أهميَّة التوحيد والعقيدة.
2ـ أنَّ العبد المؤمن يحتاج للمزيد من تدبر هذه القضية الكبرى ، والحقيقة العظمى في الكون والحياة مطلقاً ؛ إذ إنَّ الشيطان أقسم بإضلال الناس وغوايتهم ، بحيله الماكرة ، فقالولأضلنَّهم ولأمنِّينَّهم ولآمرنهم فليبتكنَّ آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرنَّ خلق الله) فلا رادَّ لكيد الشيطان ، ولا عاصم إلاَّ الاستمساك والاعتصام بتوحيد الله ، وتصفية النفس من درن الباطل، والرَّان المنطبع على القلب ، ولا يتمّ ذلك إلا بنقاء التوحيد في القلب؛ فالتوحيد كما أنَّه صلب ، ولا يحتمل التموُّج والمساومة في مبادئه ، فهو كذلك شفَّاف يقدح فيه أدنى شيء يخلُّ بلوازمه ومقتضياته ، وقد عبَّر عن ذلك الإمام ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ بقولهالتوحيد أشفُّ شيء وأنزهه ، وأنصعه وأصفاه وأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثِّر فيه ، فهو كأبيض ثوب يكون ، يؤثِّر فيه أدنى أثر ، وكالمرآة الصافية جدَّاً ، أدنى شيء يؤثِّر فيها ، ولهذا تشوهه اللحظة واللفظة والشهوة الخفيِّة) (الفوائد لابن القيم:42)
ويقصد ـ رحمه الله ـ باللحظة:النظر إلى ماحرَّم الله . واللفظة:الكلام الذي يتكلم به الإنسان سواء من شرك بالله ، أوالكلام الذي لا يلقي له بالاً يقذف به في النار سبعين خريفاً . والشهوة الخفية:إمَّا أنَّها حب الرئاسة والإمارة ، أو أنَّها الرياء وعدم الإخلاص لله.
كما أنَّا نجد أنه ـ عزَّ وجل ـ يوصي الصحابة ، ومن بعدهم من أهل الإيمان ، بالإيمان بالله ورسوله ، وإن كانوا مؤمنين ، ليؤكد عليهم هذا المبدأ الثمين ، حتى يقوى إيمانهم بالله، وتشتد قلوبهم على تحمُّل ما يرضيه ـ سبحانه ـ فيقول ـ تعالى ـيا أيُّها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذين نزَّل على رسوله) سورة النساء:(136) ففي هذه الآية يدعو ـ جلَّ جلاله ـ أهل الإيمان إلى زيادة الإيمان بالله ، لأنَّه ليس كلَّ من قال لاإله إلاَّ الله، وأظهر إيمانه باليوم الآخر يكون مسلماً ؛ ويدلُّ لذلك ـ قوله تعالى ـومن الناس من يقول آمنَّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين* يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) سورة البقرة:(8 ـ9)، فالعلم بالله تعالى لا يقف عند حد معيَّن، والمطلوب من المرء أن ترتقي معرفته وعلمه بربه باستمرار وعلى وجه الديمومة، ومن هنا كان الطلب في الآية من محمد صلى الله عليه وسلم بأن يعلم معنى وحقيقة لا إله إلا الله مرَّة بعد أخرى.
3ـ لاشكَّ أن الأمر في قوله تعالى فاعلم أنَّه لا إله إلا الله) ليس خاصاً بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فحسب ؛ وعليه فإنَّ علاج الخلل في التوحيد ، وكما أنَّه يتمُّ بدرء الخلل عنه، وتخلية القلب منه ، إلاَّ أنه يحتاج إلى تمكين عرى الإيمان في القلب ، وتحليته به ، ليخالط بشاشة الإيمان القلوب ، فيتم بذلك تخلية وتحلية ، وكما يقول علماء الأصول:التخلية قبل التحلية، فيخلِّي الإنسان عن قلبه شوائب الانحراف العقدي ، ويحليه ببلسم الإيمان ، وصفاء الاعتقاد، ونقاوة التوحيد .
4ـ إنَّ مما يستفاد من هذه الآية، أنَّ العلم بالتوحيد، لا يعني الإبقاء على تعلمه ومعرفته من ناحية نظريَّة معرفيَّة فحسب، بل ينبغي أن يقودنا ذلك لممارسة هذا التوحيد واقعاً ومنهج حياة، وقد كان صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقومون بذلك، بل وصفهم من جاء بعدهم من التابعين بأنَّهم كانوا كالمصاحف يمشون على ظهر المدينة ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ وعودة للآيةفاعلم أنَّه لا إلا إلا الله) فإنَّا نجد عقِبَها مباشرةواستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم) سورة محمد:(19) والمعنى أن يتبع هذا العلم الذي يتعلمه المرء المسلم؛ العمل به والتطبيق له، ولهذا نجد الإمام البخاري بوَّب باباً في صحيحه بعنوانباب العلم قبل القول والعمل) واستدل بقوله تعالىفاعلم أنَّه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) فبدأ الله تعالى بالعلم قبل القول والعمل.
إنَّنا ينبغي أن نعترف بأنَّ أيَّ خلل طارئ على من وحَّد الله ، لا يكون ذلك إلاَّ بعدة أشياء ، ومن ألزمها ذكراً:
• ضعف مراقبة الله ، وقلَّة الوازع الديني الذي يجب أن يتنامى في القلب ، حتى لا يكون القلب كالكوز مجخياً ، لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً.
• ضعف ارتباط العبد بربه من نواحي العبادة كالرجاء والخوف والمحبة والاستعانة والاستغاثة ، وقلة الانطراح بين يديه ، والانكباب على عتبة بابه ، مع أنَّ هذا الأمر من أشدِّ الأمور ، التي لزمها الأنبياء والأولياء الصالحون، ومنهم إبراهيم ـ عليه السلام ـ حيث كان داعية للتوحيد ، ومحطماً لأوثان المشركين ، ومع هذا فقد خاف على نفسه من أن تشاب بلوثات شركية، فقال لربه داعياًواجنبني وبني أن نعبد الأصنام) سورة إبراهيم:(35) ومكمن المسألة في ذلك ؛ دعاء إبرهيم ربَّه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام . ثمَّ يبين إبراهيم ـ عليه السلام ـ سبب دعائه ، فيقول ربِّ إنَّهنَّ أضللن كثيراً من الناس) ولهذا علَّق الإمام إبراهيم التيمي على قول إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ قائلاً: ومن يأمن البلاء بعد أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ؟(فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ، للشيخ:عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ/ صـ 74).
ومما يستنتج من دعائه ـ عليه السلام ـ أن الأشياء التي تعبد من دون الله ، قد يكون لها حجم واسع من التأثير على الناس ، بإضلالهم عن الصراط المستقيم ، ويمثِّل أهل العلم عليه بأمثلة ، ومنها: أن يلجأ شخص إلى القبور فيستغيث بأصحابها أو يدعو متوسلاً بأصحابها، فيستجيب الله دعائه في ذلك المكان بسبب إخلاصه لله في الدعاء، وتضرعه أثناء الرجاء، فيعطيه الله مراده، فيظن ذلك الداعي أنَّ ذلك حصل بسبب دعائه عند صاحب ذلك القبر، فيذهب له ويزداد تعلقه به ، مع العلم أنَّ ما يقوم به خلل في التوحيد وقدح به، مع العلم بأنَّ هذا الرجل الذي قام بهذه الطريقة غير المشروعة، أراد الله أن يعطيه مراده بمشيئته ـ سبحانه ـ وإرادته الكونية القدرية، وليس بسبب دعائه عند من لا ينفع ولا يضر أو توسله به أو استغاثته به ، فيفتن الرجل بذلك الطاغوت،ويلتجئ إليه في سرِّه وعلانيته،وفي شدَّته ورخائه ـ عياذاً بالله ـ(ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً) سورة المائدة:(41)
4 ـ في هذه الآية تنبيه لبعض الدعاة القائلين بأنَّ قضية التوحيد سهلة ، ولاتحتاج إلى ذلك التكثيف العلمي والتعليمي ، أو أنَّ لدينا من هموم الأمة ما يحوجنا بالكلام عنها أكثر من قضية باتت معروفة في أذهان المسلمين، والجواب عن ذلك:
لا ألذ للمرء المسلم، ولا أجمل من ساعات يقضيها في تأمل آيات الكتاب الحكيم، المنزلة من عند رب العالمين، كيف وهوـ سبحانه وتعالى ـ القائل في محكم التنزيلالله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثمَّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) سورة الزمر:(23) .
ووقوفاً بتأمل لقول الله تبارك وتعالىفاعلم أنَّه لا إله إلاَّ الله ) سورة محمد:(19) فقد نزلت هذه الآية الكريمة على نبينا محمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بعد ثلاث عشرة سنة من دعوته إلى التوحيد ، واستفراغ وسعه في التبليغ والإنذار لكفَّار قريش ومن لفَّ لفَّهم.
ويحقٌّ للمتدبر في كتاب الله ، أن يرجع الفكر والنظر كرَّتين بل كرَّات في تدبُّر هذه الآية ، إذ إنها تأمره ـ عليه الصلاة والسلام ـ بتعلُّم التوحيد ، ومعرفة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ حق المعرفة، مع أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أفضل الأنبياء والمرسلين ، وأعرفهم بربِّ العالمين ، بل هو نفسه قد دعا بهذه الكلمة الكفَّار والمشركين ، كما روى ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه وكان جاهلياً فأسلم، قال: (( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ويدخل في فجاجها والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت، يقول: أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (15448) وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" برقم: ( 834 ).
قال الإمام ابن كثير ـ رحمه الله ـ والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمرّ يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك رادّ، ولا يصدّه عن ذلك صادّ، يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم، ومواقف الحجّ، يدعو من لقيه من حرّ وعبد وضعيف وقويّ، وغنيّ وفقير) البداية والنهاية.
ولعل من الفوائد المستنبطة من قوله تعالىفاعلم أنَّه لا إله إلاَّ الله) المنزلة على نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ بعد ثلاثة عشر عاماً في دعوته إلى التوحيد، لعلَّها تضبط في عدَّة نقاط محورية ، يجدر التنبه لها ، ويحسن تسليط الضوء عليها ، فمنها:
1ـ أنَّ فيها دلالة واضحة في التأكيد على وجوب توحيد الله ومعرفته ، ولو كان الداعية إلى ذلك من كبار الموحدين ؛ لأنَّ النفس لايقوى إيمانها بالله ، ولا تنبعث فيها روح الدعوة إلى الله ، ولا ينقدح بين جوانبها التبيلغ والنذارة لهذا الدين، ولا يقوى ولاؤها لله ، ولا براؤها من أعدائه، ولا تهفو للجهاد في سبيل الله ، إلاَّ إذا كانت دعائم التوحيد فيها راسخة، وصلابة الإيمان في جذورها متعمقة، فينتج من ذلك، قوَّة العمل لهذا الدين ، وعلو الهمة في بثِّه بين أنحاء المعمورة ، وصلابة الإرادة في ذلك ، وقوَّة الصبر على ما تواجهه من مصاعب وعراقيل ، إثر قيامها بالتعليم ، وتبليغ دين رب العالمين.
ولهذا فإنَّ الجهاد في سبيل الله ، لم يشرع عبثاً، بل شرع لحماية ونشر راية(لا إله إلا الله محمد رسول الله) لتكون كلمة الله هي العليا ، ولتحطيم جميع المكابرين الذين يحولون بين دعوة التوحيد وبين الناس ، حتى تصل إليهم بنقائها وصفائها ، وتخلصهم من أدران الوثنية، وشوائب الشرك والعبودية لغير الله ، ويدل عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلَّم ـبعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبَد الله وحده لا يشرك به شيئاً) والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده(7/123ـ125) وجوَّد إسناده ابن تيمية في الاقتضاء ، وحسَّنه ابن حجر، وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر ، والشيخ الألباني ـ رحمهم الله ـ فالغاية من الجهاد تعبيد الناس لربِّ العالمين، والإبقاء على ملَّة إبراهيم حنيفاً مسلماً ، وما كان من المشركين، ممَّا يدل على أهميَّة التوحيد والعقيدة.
2ـ أنَّ العبد المؤمن يحتاج للمزيد من تدبر هذه القضية الكبرى ، والحقيقة العظمى في الكون والحياة مطلقاً ؛ إذ إنَّ الشيطان أقسم بإضلال الناس وغوايتهم ، بحيله الماكرة ، فقالولأضلنَّهم ولأمنِّينَّهم ولآمرنهم فليبتكنَّ آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرنَّ خلق الله) فلا رادَّ لكيد الشيطان ، ولا عاصم إلاَّ الاستمساك والاعتصام بتوحيد الله ، وتصفية النفس من درن الباطل، والرَّان المنطبع على القلب ، ولا يتمّ ذلك إلا بنقاء التوحيد في القلب؛ فالتوحيد كما أنَّه صلب ، ولا يحتمل التموُّج والمساومة في مبادئه ، فهو كذلك شفَّاف يقدح فيه أدنى شيء يخلُّ بلوازمه ومقتضياته ، وقد عبَّر عن ذلك الإمام ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ بقولهالتوحيد أشفُّ شيء وأنزهه ، وأنصعه وأصفاه وأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثِّر فيه ، فهو كأبيض ثوب يكون ، يؤثِّر فيه أدنى أثر ، وكالمرآة الصافية جدَّاً ، أدنى شيء يؤثِّر فيها ، ولهذا تشوهه اللحظة واللفظة والشهوة الخفيِّة) (الفوائد لابن القيم:42)
ويقصد ـ رحمه الله ـ باللحظة:النظر إلى ماحرَّم الله . واللفظة:الكلام الذي يتكلم به الإنسان سواء من شرك بالله ، أوالكلام الذي لا يلقي له بالاً يقذف به في النار سبعين خريفاً . والشهوة الخفية:إمَّا أنَّها حب الرئاسة والإمارة ، أو أنَّها الرياء وعدم الإخلاص لله.
كما أنَّا نجد أنه ـ عزَّ وجل ـ يوصي الصحابة ، ومن بعدهم من أهل الإيمان ، بالإيمان بالله ورسوله ، وإن كانوا مؤمنين ، ليؤكد عليهم هذا المبدأ الثمين ، حتى يقوى إيمانهم بالله، وتشتد قلوبهم على تحمُّل ما يرضيه ـ سبحانه ـ فيقول ـ تعالى ـيا أيُّها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذين نزَّل على رسوله) سورة النساء:(136) ففي هذه الآية يدعو ـ جلَّ جلاله ـ أهل الإيمان إلى زيادة الإيمان بالله ، لأنَّه ليس كلَّ من قال لاإله إلاَّ الله، وأظهر إيمانه باليوم الآخر يكون مسلماً ؛ ويدلُّ لذلك ـ قوله تعالى ـومن الناس من يقول آمنَّا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين* يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) سورة البقرة:(8 ـ9)، فالعلم بالله تعالى لا يقف عند حد معيَّن، والمطلوب من المرء أن ترتقي معرفته وعلمه بربه باستمرار وعلى وجه الديمومة، ومن هنا كان الطلب في الآية من محمد صلى الله عليه وسلم بأن يعلم معنى وحقيقة لا إله إلا الله مرَّة بعد أخرى.
3ـ لاشكَّ أن الأمر في قوله تعالى فاعلم أنَّه لا إله إلا الله) ليس خاصاً بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فحسب ؛ وعليه فإنَّ علاج الخلل في التوحيد ، وكما أنَّه يتمُّ بدرء الخلل عنه، وتخلية القلب منه ، إلاَّ أنه يحتاج إلى تمكين عرى الإيمان في القلب ، وتحليته به ، ليخالط بشاشة الإيمان القلوب ، فيتم بذلك تخلية وتحلية ، وكما يقول علماء الأصول:التخلية قبل التحلية، فيخلِّي الإنسان عن قلبه شوائب الانحراف العقدي ، ويحليه ببلسم الإيمان ، وصفاء الاعتقاد، ونقاوة التوحيد .
4ـ إنَّ مما يستفاد من هذه الآية، أنَّ العلم بالتوحيد، لا يعني الإبقاء على تعلمه ومعرفته من ناحية نظريَّة معرفيَّة فحسب، بل ينبغي أن يقودنا ذلك لممارسة هذا التوحيد واقعاً ومنهج حياة، وقد كان صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقومون بذلك، بل وصفهم من جاء بعدهم من التابعين بأنَّهم كانوا كالمصاحف يمشون على ظهر المدينة ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ وعودة للآيةفاعلم أنَّه لا إلا إلا الله) فإنَّا نجد عقِبَها مباشرةواستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم) سورة محمد:(19) والمعنى أن يتبع هذا العلم الذي يتعلمه المرء المسلم؛ العمل به والتطبيق له، ولهذا نجد الإمام البخاري بوَّب باباً في صحيحه بعنوانباب العلم قبل القول والعمل) واستدل بقوله تعالىفاعلم أنَّه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) فبدأ الله تعالى بالعلم قبل القول والعمل.
إنَّنا ينبغي أن نعترف بأنَّ أيَّ خلل طارئ على من وحَّد الله ، لا يكون ذلك إلاَّ بعدة أشياء ، ومن ألزمها ذكراً:
• ضعف مراقبة الله ، وقلَّة الوازع الديني الذي يجب أن يتنامى في القلب ، حتى لا يكون القلب كالكوز مجخياً ، لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً.
• ضعف ارتباط العبد بربه من نواحي العبادة كالرجاء والخوف والمحبة والاستعانة والاستغاثة ، وقلة الانطراح بين يديه ، والانكباب على عتبة بابه ، مع أنَّ هذا الأمر من أشدِّ الأمور ، التي لزمها الأنبياء والأولياء الصالحون، ومنهم إبراهيم ـ عليه السلام ـ حيث كان داعية للتوحيد ، ومحطماً لأوثان المشركين ، ومع هذا فقد خاف على نفسه من أن تشاب بلوثات شركية، فقال لربه داعياًواجنبني وبني أن نعبد الأصنام) سورة إبراهيم:(35) ومكمن المسألة في ذلك ؛ دعاء إبرهيم ربَّه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام . ثمَّ يبين إبراهيم ـ عليه السلام ـ سبب دعائه ، فيقول ربِّ إنَّهنَّ أضللن كثيراً من الناس) ولهذا علَّق الإمام إبراهيم التيمي على قول إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ قائلاً: ومن يأمن البلاء بعد أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ؟(فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ، للشيخ:عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ/ صـ 74).
ومما يستنتج من دعائه ـ عليه السلام ـ أن الأشياء التي تعبد من دون الله ، قد يكون لها حجم واسع من التأثير على الناس ، بإضلالهم عن الصراط المستقيم ، ويمثِّل أهل العلم عليه بأمثلة ، ومنها: أن يلجأ شخص إلى القبور فيستغيث بأصحابها أو يدعو متوسلاً بأصحابها، فيستجيب الله دعائه في ذلك المكان بسبب إخلاصه لله في الدعاء، وتضرعه أثناء الرجاء، فيعطيه الله مراده، فيظن ذلك الداعي أنَّ ذلك حصل بسبب دعائه عند صاحب ذلك القبر، فيذهب له ويزداد تعلقه به ، مع العلم أنَّ ما يقوم به خلل في التوحيد وقدح به، مع العلم بأنَّ هذا الرجل الذي قام بهذه الطريقة غير المشروعة، أراد الله أن يعطيه مراده بمشيئته ـ سبحانه ـ وإرادته الكونية القدرية، وليس بسبب دعائه عند من لا ينفع ولا يضر أو توسله به أو استغاثته به ، فيفتن الرجل بذلك الطاغوت،ويلتجئ إليه في سرِّه وعلانيته،وفي شدَّته ورخائه ـ عياذاً بالله ـ(ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً) سورة المائدة:(41)
4 ـ في هذه الآية تنبيه لبعض الدعاة القائلين بأنَّ قضية التوحيد سهلة ، ولاتحتاج إلى ذلك التكثيف العلمي والتعليمي ، أو أنَّ لدينا من هموم الأمة ما يحوجنا بالكلام عنها أكثر من قضية باتت معروفة في أذهان المسلمين، والجواب عن ذلك: