بسم الله الرحمن الرحيم
تعيشُ الأمةُ الإسلاميةُ اليوم أحوالاً من الضعفِ والتفكك، وتذوقُ ألواناً من الذلِ والهوان، وتقاسي مآسيَ من التفرقِ والتشرذُم، والعقلاءُ يتطلعون لرؤيةٍ مستقبليةٍ تُنْقِذُ الأمةَ مما هي فيه، وقد أدلى المثقفونَ برؤيتهم، والساسةُ بحلولهم، والكُتاب بنظراتهم، تعددت التحليلاتُ للأسباب، وتنوعتِ النظراتُ بالمخارج والحلول، وقد آن الأوانُ بالأمة جمْعاءَ شعوباً وأفراداً حكاماً ومحكومين أن يتبصروا الحقيقةَ وأن يستجلبوا الحلولَ الناجحةَ من منطلقاتِ ثوابتِ دينِهم ومرتكزاتِ أصولهم فمهما حاولت الأمة فلن تجدَ حلولَا ناجحةً لأدوائها ومخارجَ لأزماتها ومشكلاتِها إلا من فهمٍ صحيحٍ من كتاب الله وسنةِ نبينا محمد وسأعيشُ معك أخي الكريم لحظاتٍ ماتعة مع وصيةٍ عظيمةٍ صدرت من معلمِ البشرية وسيدِ الحنيفية نبيِنا محمدٍ وهو يوجه للأمةِ وثيقةً خالدةً تصلُح بها حياتُها وتُفلح بها آخرتُها، تَسْعَدُ بها أفرادُها وتزدهِر بتحقيقِها مجتمعاتُها، وثيقةٌ يجب أن تكونَ نَصبَ أعيننا، وأن يكون تطبيقها حاكمَ تصرفاتنِا، ومُوَجِهَ تحرُكاتِنا ومُصَحِحَ إراداتِنا وتوجُهاتِنا، وثيقةٌ لا تنظرُ لتغليبِ مصلحةٍ قومية، ولا تنطلقُ من نزْعةٍ عِرْقيةٍ أو نظْرةٍ آنية، وثيقةٌ صدرت ممن لا ينطق عن الهوى، ولا يَصْدرُ إلا عن وحي يوحى وثيقةٌ محمديةٌ ووصيةٌ نوْرانيةٌ تنهض بالأمة للحياة المزدهرةِ المثمرةِ بالخير والعزةِ والصلاحِ والقوة وإحياءٌ شامل للفردِ والجماعةِ والنفوسِ والمقدَّرات، إنها حياةٌ تُبنى على قوةِ الإيمانِ التي لا غِنى عنها في مواجهةِ الأزمات، حياةٌ تَعْني النهضةَ بأشمل معانيها وأدقِ صورها، بما يجمعُ للأمةِ تحقيقَ السعادةِ ومعايشةَ الأمنِ والسلام والخيرِ والازدهارِ والرقيِ في جميعِ مجالاتِ الحياة، فإن العزَ في تحقيق هذه الوصيةِ مضمون، والمجدَ في الدارينِ بتنفيذ بُنودها مرهون، الأفرادُ بدون تحقيقها في ضياع، والمجتمعاتُ في البُعدِ عن مضامينِ هذه الوثيقة إلى تشتُتٍ ودمار، وثيقةٌ تربُط المسلمَ بالأصل مع اتصاله بالعقل، وثيقةٌ تحقيِقُها هو الضامنُ الأوْحد للتحدياتِ التي تواجه الأمةَ الإسلامية وتستهدفُ قيمِها ومقدّراتِها وخصائصَها، يقول عمر الفاروق - رضي الله عنه - (إنما سبقتم الناس بنُصرة هذا الدين)
ولتتأمل معي أيها المبارك إلى تلك الوصيةِ العظيمةِ والوثيقةِ الخالدةِ تأمل استجابةٍ وتحقيقٍ واستماعَ امتثالٍ وانقياد، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -:
كنت خلف النبي يوماً فقال لي " يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله،
واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك،
رُفعت الأقلام وجفت الصحف " [ رواه الترمذي وقال" حديث حسنٌ صحيح " وفي روايةِ غيره: " احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبَك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئَك، واعلم أن النَصر مع الصبر، وأن الفرَج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا "
نعم.. هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة، وقواعدَ من أهمِ أمور الدين، قال بعض المحدثين: تدبرتُ هذا الحديثَ فأدهشني وكِدّتُ أن أطيش، فوا أسفا من الجهلِ
بهذا الحديثِ وقلةِ التفهمِ لمعناه، ومن أهم قواعده ووصاياه:
أولا: حِفظ الله المرادُ به في هذا الحديث هو حفظُ حدوده والالتزامُ بحقوقه والوقوفُ عند أوامره بالامتثال وعند مناهية بالاجتناب {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ حفظٌ } يتضمن حِفْظَ الرأس وما وعى، والبطنَ وما حوى، فقد أخرج الإمام أحمدُ والترمذيُ من حديث ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - مرفوعاً " الاستحياء من الله حقَّ الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وأن تحفظ البطنَ وما حوى ".
حفظٌ يمنع الجوارح من الزللِ والحواسَ عن الخلل، قال " من يضمنُ لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة " [رواه البخاري] حفظٌ يضبط الشهواتِ أن تميل بصاحبها إلى الضلال، أو أن تجنحَ به عن مبادئِ القيمِ وكريمِ الخِلال {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}.
ثانيا: من قواعدِ هذا الدين أن الجزاءَ من جنسِ العمل، فمن حقق حفظَ الله بالمعنى المتقدم تحقق له حفظُ الله ورعايتُه وعنايتُه، حفظاً يشملُ دينه ودنياه، ويحققُ له المصالحَ بأنواعها، ويدفعُ عنه الأضرارَ بشتى أشكالها.
ثالثا: قال أهل العلم: وحِفْظُ الله للعبد يدخل فيه نوعانِ من الحفظ:
أحدهما: حِفْظُ الله للعبد في دينه وإيمانه بحفظه من الشبهات المضلةِ ومن الشهوات المحرمةِ بالحيلولةِ بينه وبين ما يُفسد عليه دينَه {كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.
الثاني: حفظٌ له في مصالحِ دنياه، كحفظه في بدنه وولدِه وأهله وماله {لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} قال ابن عباس - رضي الله عنهما - (الملائكةُ يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر تخلوا عنه) وقال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - في كتابه جامع العلوم والحكم " ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعلَ الحيواناتِ المؤذيةَ بالطبعِ حافظةً له من الأذى كما جرى لسفينةَ مولى النبي حيث كُسِرَ به المركب وخرج إلى جزيرة، فرأى الأسد، فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق ".
ثالثا: أن الله يحفظُ ذريةَ العبدِ الصالحِ بعد موته، كما قال - جل وعلا - {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} قيل: إنهما حُفظا بصلاحِ أبيهما، كما قال - جل وعلا -: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} ومن حَفِظَ الله في صِباه وقوتِه حفظه الله في حال كِبَره وضعفِ قوته، ومتعه بسمعه وبصره وحولهِ وقوته؛ جاوزَ بعضُ السلف المائةَ سنة، وهو مُمتَّع بقوته وعقله، فوثب يوماً وثبةً شديدةً فقيل له: ما هي هذه الوثبة؟ فقال " هذه جوارحٌ حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر".