إنّ الحَمد لله نَحمُدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ ونتوبُ إليه ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " ، " الحمد لله فاطر السموات والأرض ، جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير " وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ليس له ند ولا نظير ، وأشكره سبحانه على آلائه تكفل بالرزق والتدبير ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النذير البشير ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ، وأخرجها من ظلمات الجهل المستطير ، إلى ميادين العلم والتنوير ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً " ، " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً " أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فهي الزاد في الدنيا والآخرة، وبها النجاة يوم الآزفة { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } .
إخوة الإسلام : إن الله خلق الثقلين لحكمة بالغة خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا، خلقهم ليعبدوه وحده لا شريك له، ليخلصوا له العبادة، وخلق الليل والنهار وجعلهما خزائن للأعمال يحصي على العبد ما له وما عليه " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " ، " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " ، واعلموا أيها الناس أن هذه الدنيا مزرعة للآخرة ، يفوز فيها المتقون ، ويخسر فيها الغافلون ، ومن حكمته سبحانه أنه لم يجعل هذه الدار للبقاء والاستمرار، وإنما جعلها دار ممر واعتبار ، فالرابح من صلح زرعه ، والخاسر من فسد ثمره ، وكل الناس يعلم أنما هذه الحياة الدنيا ليست لحي سكنا ، فهي سريعة الزوال، وشيكة الارتحال، ولقد قال الله لنبيه الكريم " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإئن مت فهم الخالدون " ، فالبقاء لله الواحد القهار ، قال تعالى : " يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار * اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب " ، أخرج مسلم في صحيحه من حديث عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَطْوِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ؟ " .
تزود من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجـر
فكـم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا *** وقد نسجت أكفانه وهو لا يـدري
وكم من صغار يرتجى لهم طول العمر *** وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبـر
وكـم من عروس زينوها لعرسـها *** وقد قبضت أرواحهم ليلـة القـدر
وكـم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
فـمن عـاش ألفـا وألفيـن إنـه *** لابـد من يـوم يسـير إلى القبر
إخوة الإيمان : إن الله كتب الفناء على كل شيء " كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون " ، وحكم بالموت على كل حي " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " ، كل نفس يا عباد الله لا بد أن تشرب المنون صغيرة أم كبيرة ، ملكة أم فقيرة ، وزيرة أم حقيرة ،الموت باب و كل الناس داخله الموت كأس و كل الناس شاربه " كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون " .
أحبتي في الله : لا يدري الإنسان متى يفجؤه الأجل ولا أشد وأعظم على الميت وأهله من إتيان الموت له فجأة ، وهو في كامل صحته وعنفوان قوته ، وتمام نشاطه ، ومع تزايد النعم والعيش الرغيد ، لم يحسب للموت حسابه ولم يظن أهله أن ينزل عليه الموت ، فإذا هم به قد سقط ميتا لا حراك به فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينا من الدهر ، ولهذا من الغفلة أن يلهو الإنسان عن الموت وعن الاستعداد له فيقصر في الواجبات ويقع في السيئات ويأخذ حقوق الناس بغير حق بل بالظلم والبهتان ويتعدى على الغير في مال أو عرض أو نفس ، يؤذي المسلمين والجيران ، يأكل حقوق الإجراء والخدم ، يظلم الزوجة والأولاد ، وربما وقع الظلم من الأجير لمن استأجره ، فكم من الناس من نسي الموت ولم يخطر له على بال ، بل وتراه في أكمل أحواله صحة ونشاطا وعافية ومالا ، فلا يلبث أن يأتيه الموت فجأة فلا يتمكن من تدارك نفسه ومن التوبة إلى الله والتحلل من المظالم ، فربما لقي ربه محملاً بالأوزار والآثام ، فلنكن عباد الله على حذر من هذا ، ولنتدارك النفس قبل فوات الأوان وإن كثيرا من الناس في هذا الزمان استولى عليهم حب المال والجاه والمناصب ، حتى ضيعوا حياتهم لهواً ولعباً ، وللمال جمعاً وحباً ، نسوا هادم اللذات ومفرق الجماعات ، وربما قصروا في كثير من الواجبات ووقعوا في كثير من المخالفات ، وارتكبوا كثيرا من المنهيات والمحرمات ، " فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون " ، فلله در أقوام علموا قرب الرحيل فهيئوا الزاد للسفر الطويل ، قاموا بما أمر الله وتركوا ما نهى عنه ، هونوا الدنيا فقنعوا منها بما حضر ، واستوثقوا بقفل التقوى واستعدوا للسفر ، وحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا ، لما احتضر سليمان التيمي قيل له : أبشر فقد كنت مجتهداً في طاعة الله ، فقال : لا تقولوا هكذا ، فإني لا أدري ما يبدوا لي من الله عز وجل ، فإنه سبحانه يقول : { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } ، وكم من الناس اليوم من يعمل الموبقات ، ويجترح المهلكات ولا يعبأ بالسيئات ، وكل مسجل في صحيفته يوم الجزاء والحساب ، إذا نشرت الدواوين وتطايرت الصحف ، وفتحت السجلات للفصل والقضاء ، ألا فاعلموا عباد الله أن العاصي لو عصى مخلوقاً لجزع من لقائه ، فكيف بمن يعصي الخالق جل جلاله ، فكيف يلقى خالقه محملاً بأوزاره وآثامه ، بكى محمد بن المنكدر عند الوفاة ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته ، ولكن أخاف أني أتيت شيئاً حسبته هيناً وهو عند الله عظيم ، وكم من المسلمين اليوم من يجاهر بالمعاصي العظام والكبائر الجسام جهاراً نهاراً ، بلا خوف ولا حياء من جبار الأرض والسماء ، والمصيبة الكبرى ، هجران كثير من المسلمين للصلوات ، وعقوق للوالدين ، وقطيعة للأرحام ، قال عبدالله بن عمر : كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه ، فقال : ضع رأسي على الأرض ؟ فقلت : ما عليك كان على الأرض أو كان على فخذي ؟!فقال : لا أم لك , ضعه على الأرض ، فقال عبدالله : فوضعته على الأرض ، فقال : ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي عز و جل ، هذا عمر الفاروق رضي الله عنه مبشر بالجنة ويقول ما قال ، فكيف بمن لم يبلغ شيئاً من منزلته ، لهو أعظم أن يخشى ربه ، ويراقبه في كل تصرفاته وحركاته ، قال معاوية رضي الله عنه عند موته لمن حوله : أجلسوني ، فأجلسوه ، فجلس يذكر الله , ثم بكى وقال : الآن يا معاوية ، جئت تذكر ربك بعد الانحطام والانهدام , أما كان هذا وغض الشباب نضير ريان ، ثم بكى وقال : يا رب , يا رب , ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي ، اللهم أقل العثرة واغفر الزلة ، وجد بحلمك على من لم يرج غيرك ولا وثق بأحد سواك ، ثم فاضت روحه رضي الله عنه ، ودخل المزني على الإمام الشافعي في مرضه الذي توفي فيه فقال له : كيف أصبحت يا أبا عبدالله ، فقال الشافعي : أصبحت من الدنيا راحلا, وللإخوان مفارقا , ولسوء عملي ملاقيا , ولكأس المنية شاربا , وعلى الله واردا , ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها , أم إلى النار فأعزيها , ثم أنشأ يقول :
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كـان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب *** لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما
ولما حضرة الوفاة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه قال لبنيه : يا بني , إني قد تركت لكم خيراً كثيراً ، لا تمرون بأحد من المسلمين وأهل ذمتهم إلا رأوا لكم حقاً ، يا بني ، إني قد خيرت بين أمرين , إما أن تستغنوا وأدخل النار , أو تفتقروا وأدخل الجنة ، فأرى أن تفتقروا إلى ذلك أحب إلي , قوموا عصمكم الله ، قوموا رزقكم الله ، قوموا عني , فإني أرى خلقاً ما يزدادون إلا كثرة , ما هم بجن ولا إنس ، قال مسلمة : فقمنا وتركناه , وتنحينا عنه , وسمعنا قائلاً يقول : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين " ، ثم خفت الصوت , فقمنا فدخلنا , فإذا هو ميت مغمض مسجى ، فأين ملوك الأرض ، ورؤساء التراب ، وساسة العنصرية ، عن عدل عمر بن عبد العزيز ، ولي من أولياء الله تعالى ، ترك الدنيا واشترى الآخرة ، لم يهتم بجمع الأموال ، ونهب الخزائن ، لم يترك طبقة غنية ، وأخرى فقيرة ، بل أقبل على الله خائفاً وجلاً من يوم التلاق ، فأكرمه ربه بالثبات يوم الممات ، قال تعالى : " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم " ، وحينما حضر المأمون الموت قال : أنزلوني من على السرير ، فأنزلوه على الأرض ، فوضع خده على التراب وقال : يا من لا يزول ملكه ، ارحم من زال ملكه ، فأين أصحاب المعاصي ، ومقترفوا الذنوب ، ومرتكبوا الآثام عن تذكر الموت ، الذي قطع كل لذة في هذه الحياة الدنيا ، الموت الذي لا يفر منه مطلوب ، ولو أغلق الحواجز ، ووضع الجنود " ، قال تعالى : " أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " ،تابع من الأسفل
من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " ، " الحمد لله فاطر السموات والأرض ، جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير " وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ليس له ند ولا نظير ، وأشكره سبحانه على آلائه تكفل بالرزق والتدبير ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النذير البشير ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ، وأخرجها من ظلمات الجهل المستطير ، إلى ميادين العلم والتنوير ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ، " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً " ، " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً " أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فهي الزاد في الدنيا والآخرة، وبها النجاة يوم الآزفة { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } .
إخوة الإسلام : إن الله خلق الثقلين لحكمة بالغة خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا، خلقهم ليعبدوه وحده لا شريك له، ليخلصوا له العبادة، وخلق الليل والنهار وجعلهما خزائن للأعمال يحصي على العبد ما له وما عليه " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " ، " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " ، واعلموا أيها الناس أن هذه الدنيا مزرعة للآخرة ، يفوز فيها المتقون ، ويخسر فيها الغافلون ، ومن حكمته سبحانه أنه لم يجعل هذه الدار للبقاء والاستمرار، وإنما جعلها دار ممر واعتبار ، فالرابح من صلح زرعه ، والخاسر من فسد ثمره ، وكل الناس يعلم أنما هذه الحياة الدنيا ليست لحي سكنا ، فهي سريعة الزوال، وشيكة الارتحال، ولقد قال الله لنبيه الكريم " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإئن مت فهم الخالدون " ، فالبقاء لله الواحد القهار ، قال تعالى : " يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار * اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب " ، أخرج مسلم في صحيحه من حديث عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَطْوِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ؟ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ؟ " .
تزود من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجـر
فكـم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا *** وقد نسجت أكفانه وهو لا يـدري
وكم من صغار يرتجى لهم طول العمر *** وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبـر
وكـم من عروس زينوها لعرسـها *** وقد قبضت أرواحهم ليلـة القـدر
وكـم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
فـمن عـاش ألفـا وألفيـن إنـه *** لابـد من يـوم يسـير إلى القبر
إخوة الإيمان : إن الله كتب الفناء على كل شيء " كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون " ، وحكم بالموت على كل حي " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " ، كل نفس يا عباد الله لا بد أن تشرب المنون صغيرة أم كبيرة ، ملكة أم فقيرة ، وزيرة أم حقيرة ،الموت باب و كل الناس داخله الموت كأس و كل الناس شاربه " كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون " .
أحبتي في الله : لا يدري الإنسان متى يفجؤه الأجل ولا أشد وأعظم على الميت وأهله من إتيان الموت له فجأة ، وهو في كامل صحته وعنفوان قوته ، وتمام نشاطه ، ومع تزايد النعم والعيش الرغيد ، لم يحسب للموت حسابه ولم يظن أهله أن ينزل عليه الموت ، فإذا هم به قد سقط ميتا لا حراك به فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينا من الدهر ، ولهذا من الغفلة أن يلهو الإنسان عن الموت وعن الاستعداد له فيقصر في الواجبات ويقع في السيئات ويأخذ حقوق الناس بغير حق بل بالظلم والبهتان ويتعدى على الغير في مال أو عرض أو نفس ، يؤذي المسلمين والجيران ، يأكل حقوق الإجراء والخدم ، يظلم الزوجة والأولاد ، وربما وقع الظلم من الأجير لمن استأجره ، فكم من الناس من نسي الموت ولم يخطر له على بال ، بل وتراه في أكمل أحواله صحة ونشاطا وعافية ومالا ، فلا يلبث أن يأتيه الموت فجأة فلا يتمكن من تدارك نفسه ومن التوبة إلى الله والتحلل من المظالم ، فربما لقي ربه محملاً بالأوزار والآثام ، فلنكن عباد الله على حذر من هذا ، ولنتدارك النفس قبل فوات الأوان وإن كثيرا من الناس في هذا الزمان استولى عليهم حب المال والجاه والمناصب ، حتى ضيعوا حياتهم لهواً ولعباً ، وللمال جمعاً وحباً ، نسوا هادم اللذات ومفرق الجماعات ، وربما قصروا في كثير من الواجبات ووقعوا في كثير من المخالفات ، وارتكبوا كثيرا من المنهيات والمحرمات ، " فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون " ، فلله در أقوام علموا قرب الرحيل فهيئوا الزاد للسفر الطويل ، قاموا بما أمر الله وتركوا ما نهى عنه ، هونوا الدنيا فقنعوا منها بما حضر ، واستوثقوا بقفل التقوى واستعدوا للسفر ، وحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا ، لما احتضر سليمان التيمي قيل له : أبشر فقد كنت مجتهداً في طاعة الله ، فقال : لا تقولوا هكذا ، فإني لا أدري ما يبدوا لي من الله عز وجل ، فإنه سبحانه يقول : { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } ، وكم من الناس اليوم من يعمل الموبقات ، ويجترح المهلكات ولا يعبأ بالسيئات ، وكل مسجل في صحيفته يوم الجزاء والحساب ، إذا نشرت الدواوين وتطايرت الصحف ، وفتحت السجلات للفصل والقضاء ، ألا فاعلموا عباد الله أن العاصي لو عصى مخلوقاً لجزع من لقائه ، فكيف بمن يعصي الخالق جل جلاله ، فكيف يلقى خالقه محملاً بأوزاره وآثامه ، بكى محمد بن المنكدر عند الوفاة ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : والله ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته ، ولكن أخاف أني أتيت شيئاً حسبته هيناً وهو عند الله عظيم ، وكم من المسلمين اليوم من يجاهر بالمعاصي العظام والكبائر الجسام جهاراً نهاراً ، بلا خوف ولا حياء من جبار الأرض والسماء ، والمصيبة الكبرى ، هجران كثير من المسلمين للصلوات ، وعقوق للوالدين ، وقطيعة للأرحام ، قال عبدالله بن عمر : كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه ، فقال : ضع رأسي على الأرض ؟ فقلت : ما عليك كان على الأرض أو كان على فخذي ؟!فقال : لا أم لك , ضعه على الأرض ، فقال عبدالله : فوضعته على الأرض ، فقال : ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي عز و جل ، هذا عمر الفاروق رضي الله عنه مبشر بالجنة ويقول ما قال ، فكيف بمن لم يبلغ شيئاً من منزلته ، لهو أعظم أن يخشى ربه ، ويراقبه في كل تصرفاته وحركاته ، قال معاوية رضي الله عنه عند موته لمن حوله : أجلسوني ، فأجلسوه ، فجلس يذكر الله , ثم بكى وقال : الآن يا معاوية ، جئت تذكر ربك بعد الانحطام والانهدام , أما كان هذا وغض الشباب نضير ريان ، ثم بكى وقال : يا رب , يا رب , ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي ، اللهم أقل العثرة واغفر الزلة ، وجد بحلمك على من لم يرج غيرك ولا وثق بأحد سواك ، ثم فاضت روحه رضي الله عنه ، ودخل المزني على الإمام الشافعي في مرضه الذي توفي فيه فقال له : كيف أصبحت يا أبا عبدالله ، فقال الشافعي : أصبحت من الدنيا راحلا, وللإخوان مفارقا , ولسوء عملي ملاقيا , ولكأس المنية شاربا , وعلى الله واردا , ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها , أم إلى النار فأعزيها , ثم أنشأ يقول :
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كـان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب *** لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما
ولما حضرة الوفاة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه قال لبنيه : يا بني , إني قد تركت لكم خيراً كثيراً ، لا تمرون بأحد من المسلمين وأهل ذمتهم إلا رأوا لكم حقاً ، يا بني ، إني قد خيرت بين أمرين , إما أن تستغنوا وأدخل النار , أو تفتقروا وأدخل الجنة ، فأرى أن تفتقروا إلى ذلك أحب إلي , قوموا عصمكم الله ، قوموا رزقكم الله ، قوموا عني , فإني أرى خلقاً ما يزدادون إلا كثرة , ما هم بجن ولا إنس ، قال مسلمة : فقمنا وتركناه , وتنحينا عنه , وسمعنا قائلاً يقول : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين " ، ثم خفت الصوت , فقمنا فدخلنا , فإذا هو ميت مغمض مسجى ، فأين ملوك الأرض ، ورؤساء التراب ، وساسة العنصرية ، عن عدل عمر بن عبد العزيز ، ولي من أولياء الله تعالى ، ترك الدنيا واشترى الآخرة ، لم يهتم بجمع الأموال ، ونهب الخزائن ، لم يترك طبقة غنية ، وأخرى فقيرة ، بل أقبل على الله خائفاً وجلاً من يوم التلاق ، فأكرمه ربه بالثبات يوم الممات ، قال تعالى : " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم " ، وحينما حضر المأمون الموت قال : أنزلوني من على السرير ، فأنزلوه على الأرض ، فوضع خده على التراب وقال : يا من لا يزول ملكه ، ارحم من زال ملكه ، فأين أصحاب المعاصي ، ومقترفوا الذنوب ، ومرتكبوا الآثام عن تذكر الموت ، الذي قطع كل لذة في هذه الحياة الدنيا ، الموت الذي لا يفر منه مطلوب ، ولو أغلق الحواجز ، ووضع الجنود " ، قال تعالى : " أينما تكونوا يدركم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " ،تابع من الأسفل
عدل سابقا من قبل سفيان عادل في الثلاثاء ديسمبر 09, 2008 1:12 pm عدل 1 مرات