القسم الثاني:
التكبر على الرسل من حيث تعزيز النفس وترفعها على الانقياد لبشر مثل سائر الناس، {إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (إبراهيم:10)، {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} (المؤمنون:34)، {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} (الفرقان:21)، {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} (الأنعام:.
القسم الثالث: التكبر على العباد، وذلك بأن يستعظم نفسه ويستحقر غيره، فتأبى نفسه عن الانقياد لهم.
ما يظن أنه كبر وليس كبرًا:
ليس من الكبر الاعتناء بالجمال ما دام لم يتخط حد الاعتدال من غير سرف ولا اختيال؛ قال -تعالى-: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون) (الأعراف:32).
وفي صحيح مسلم: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا لِلنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ). فما أنكر عليه ذكر التجمل للجمعة وللوفود، وإنما أنكر عليه كونها سيراء.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ). قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة.
فعن خالد بن معدان قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسافر بالمشط والمرآة والدهن والسواك والكحل". وعن ابن جريج: "مشط عاج يمتشط به".
وقال ابن سعد: عن أنس بن مالك قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَكْثُرُ دَهَنَ رَأْسَهُ ويسرحُ لِحْيَتِهِ بِالْمَاءِ" (رواه البيهقي وابن الأعرابي في المعجم، وحسنه الألباني).
وأخرج البغوي وغيره عن ثابت بن قيس بن شماس قال: "كنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا}، فذكر الكبر فعظمه، فبكى ثابت فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: )ما يبكيك؟ ( فقال: يا رسول الله إني لأحب الجمال حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي. قال: )فأنت من أهل الجنة، إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك، ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس(
وليس من الكبر إظهار الصدقة: عن جابر بن عتيك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ، وَإِنَّ مِنَ الخُيَلاَءِ مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا يُحِبُّ اللَّهُ، فَأَمَّا الْخُيَلاَءُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ فَاخْتِيَالُهُ فِي الْبَغْيِ) (رواه أبو داود والنسائي، وحسنه الألباني)، والاختيال هنا يقصد به والله أعلم أن يبرز الصدقة ويظهرها؛ ليقتدي الناس به.
قال الآبادي في شرح سنن أبي داود: "والاختيال عند الصدقة ربما كان من أسباب الاستكثار منها والرغبة فيها".
قال المناوي في فيض القدير (4/408): "لأن الإنسان يهزه رائحة السخاء فيعطيها طيبة بها نفسه، ولا يستكثر كثيرًا، ولا يعطي منها شيئًا إلا وهو مستقل له".
علاج الكبر:
1- الدعاء بأن يذهب عنا الله -تعالى- ذلك الكبر.
2- الصدقة كذلك أحد علاجات الكبر؛ لا سيما صدقة السر، فمِنْ أثرها أن يشعر المسلم بالتعاطف مع الفقير وأن يتواضع لله بخدمتهم؛ ثم هي تستجلب رضا الله على العبد.
فمن رحمة الله -تعالى- بالمتصدق أن يذهب الله -تعالى- عنه بصدقته ذلك الكبر، وهذا من فضل الله -تعالى- على أهل الطاعات أن يكافئهم بالمزيد.
فائدة: والصدقة كذلك تنجيك من غضب الله -تعالى- عليك يوم القيامة وتقيك من النار، أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ).
3- التفكر في أمر المتكبرين وعاقبتهم وحال المتواضعين وفضيلتهم:
بيان فضيلة التواضع:
التواضع ضد الكبر، وحقيقته أن ينزل نفسه عن مرتبة يستحقها؛ فإن فعل ذلك لله -تعالى- ناله العز في الدنيا والآخرة "ذكره في تحفة الأحوذي".
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ) (رواه مسلم).
ونقلت آثار كثيرة تبين حال السلف مع التواضع وحرصهم عليه، ولقد ورد عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "ثلاث هن رأس التواضع، أن يبدأ بالسلام من لقيه، ويرضى بالدون من شرف المجلس، ويكره الرياء والسمعة".
أخرج البيهقي عن ابن المبارك قال: "من التواضع أن تضع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا، حتى تعلمه أنه ليس لك فضل عليه لدنياك، وأن ترفع نفسك عند من هو فوقك في دنياه، حتى تعلمه أنه ليس لدنياه فضل عليك".
وقيل: "رأس التواضع أن تكره أن تذكر بالبر والتقوى".
وروي عن ابن عباس مرفوعًا: "من التواضع أن يشرب الرجل من سؤر أخيه".
قال الحافظ السيوطي في الدر المنثور: أخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن سويد بن مقرن قال: كنا بني مقرن سبعة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولنا خادمة ليس لنا غيرها، فلطمها أحدنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أعتقوها. فقلنا: ليس لنا خادم غيرها يا رسول الله. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَلْيَسْتَخْدِمُوهَا فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهَا فَلْيُخَلُّوا سَبِيلَهَا).
ولقد بيَّن العلماء أن استعمال الشدة مع الخدم ونحوهم قد يكون سببه الكبر، وأن التلطف بهم وحسن الخلق علامة على التواضع؛ فقال النووي في شرحه للحديث كما في شرح مسلم: "وفيه: الرفق بالموالي واستعمال التواضع".
وعن أبي مسعود الأنصاري قال: بينا أنا أضرب غلاما لي، إذ سمعت صوتا من ورائي، فالتفت فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلامِ) قَالَ: فَقُلْتُ لا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا (رواه مسلم).
وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال: بينا رجل يضرب غلاما له وهو يقول: أعوذ بالله وهو يضرب، إذ بصر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أعوذ برسول الله. فألقى ما كان في يده وخلى عن العبد. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما والله لله أحق أن يعاذ، من استعاذ به مني؟ فقال الرجل: يا رسول الله فهو لوجه الله. قال: والذي نفسي بيده لو لم تفعل لواقع وجهك سفع النار".
4- الزهد في الدنيا ومظاهرها يورث التواضع، وهو علاج مهم للكبر في النفس:
الزهد هو: قلة الرغبة في الشيء، وإن شئت قلتَ: قلة الرغبة عنه.
وقال بعضهم: بغض الدنيا والإعراض عنها، وقيل: ترك راحة الدنيا لراحة الآخرة، وقيل: أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك. وقيل: بذل ما تملك ولا تؤثر ما تدرك. وقيل: ترك الأسف على معدوم، ونفي الفرح بمعلوم. قاله المناوي في تعريفاته.
والورع: تجنب الشبهات خوف الوقوع في محرّم، وقيل: ترك ما يريبك ونفي ما يعيبك؛ وقيل: الأخذ بالأوثق وحمل النفس على الأشق؛ وقيل: النظر في المطعم واللباس، وترك ما به بأس. وقيل: تجنب الشبهات، ومراقبة الخطرات.
وميزة الزاهد في الدنيا أنه يكتفي منها بالقليل وتصغر في عينه، فلا ينافس عليها ولا يفتخر بما أصابه منها، وكل ذلك يورث التواضع ويعالج الكبر؛ فمن أراد علاج الكبر فلابد أن يعالج حب الدنيا في نفسه، وأن يتزين بالتواضع والزهد في ملبسه ومطعمه، وعموم سلوكه.
أخرج أحمد والحاكم والنسائي في السنن الكبرى، وصححه الألباني، عن جابر بن سليم الهجيمي قال: لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، وَعَلَيْهِ إِزَارٌ مِنْ قُطْنٍ مُنْبَتِرُ الْحَاشِيَةِ، فَقُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلامُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: (إِنَّ عَلَيْكَ السَّلامَ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى، إِنَّ عَلَيْكَ السَّلامَ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى، إِنَّ عَلَيْكَ السَّلامَ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى، سَلامٌ عَلَيْكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ) مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا هَكَذَا قَالَ. سَأَلْتُ عَنِ الإِزَارِ؟ فَقُلْتُ: أَيْنَ أَتَّزِرُ؟ فَأَقْنَعَ ظَهْرَهُ بِعَظْمِ سَاقِهِ، وَقَالَ: (هَاهُنَا اتَّزِرْ، فَإِنْ أَبَيْتَ، فَهَاهُنَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَبَيْتَ، فَهَاهُنَا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟ فَقَالَ: (لا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ، وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْطَلِقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوَحْشَانَ فِي الأَرْضِ، وَإِنْ سَبَّكَ رَجُلٌ بِشَيْءٍ يَعْلَمُهُ فِيكَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ فِيهِ نَحْوَهُ، فَلا تَسُبَّهُ فَيَكُونَ أَجْرُهُ لَكَ وَوِزْرُهُ عَلَيْهِ، وَمَا سَرَّ أُذُنَكَ أَنْ تَسْمَعَهُ فَاعْمَلْ بِهِ، وَمَا سَاءَ أُذُنَكَ أَنْ تَسْمَعَهُ فَاجْتَنِبْهُ).
التكبر على الرسل من حيث تعزيز النفس وترفعها على الانقياد لبشر مثل سائر الناس، {إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} (إبراهيم:10)، {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} (المؤمنون:34)، {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} (الفرقان:21)، {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} (الأنعام:.
القسم الثالث: التكبر على العباد، وذلك بأن يستعظم نفسه ويستحقر غيره، فتأبى نفسه عن الانقياد لهم.
ما يظن أنه كبر وليس كبرًا:
ليس من الكبر الاعتناء بالجمال ما دام لم يتخط حد الاعتدال من غير سرف ولا اختيال؛ قال -تعالى-: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون) (الأعراف:32).
وفي صحيح مسلم: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا لِلنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ). فما أنكر عليه ذكر التجمل للجمعة وللوفود، وإنما أنكر عليه كونها سيراء.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ). قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، تدل كلها على النظافة وحسن الهيئة.
فعن خالد بن معدان قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسافر بالمشط والمرآة والدهن والسواك والكحل". وعن ابن جريج: "مشط عاج يمتشط به".
وقال ابن سعد: عن أنس بن مالك قال: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَكْثُرُ دَهَنَ رَأْسَهُ ويسرحُ لِحْيَتِهِ بِالْمَاءِ" (رواه البيهقي وابن الأعرابي في المعجم، وحسنه الألباني).
وأخرج البغوي وغيره عن ثابت بن قيس بن شماس قال: "كنت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا}، فذكر الكبر فعظمه، فبكى ثابت فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: )ما يبكيك؟ ( فقال: يا رسول الله إني لأحب الجمال حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي. قال: )فأنت من أهل الجنة، إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك، ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس(
وليس من الكبر إظهار الصدقة: عن جابر بن عتيك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ، وَإِنَّ مِنَ الخُيَلاَءِ مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا يُحِبُّ اللَّهُ، فَأَمَّا الْخُيَلاَءُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ فَاخْتِيَالُهُ فِي الْبَغْيِ) (رواه أبو داود والنسائي، وحسنه الألباني)، والاختيال هنا يقصد به والله أعلم أن يبرز الصدقة ويظهرها؛ ليقتدي الناس به.
قال الآبادي في شرح سنن أبي داود: "والاختيال عند الصدقة ربما كان من أسباب الاستكثار منها والرغبة فيها".
قال المناوي في فيض القدير (4/408): "لأن الإنسان يهزه رائحة السخاء فيعطيها طيبة بها نفسه، ولا يستكثر كثيرًا، ولا يعطي منها شيئًا إلا وهو مستقل له".
علاج الكبر:
1- الدعاء بأن يذهب عنا الله -تعالى- ذلك الكبر.
2- الصدقة كذلك أحد علاجات الكبر؛ لا سيما صدقة السر، فمِنْ أثرها أن يشعر المسلم بالتعاطف مع الفقير وأن يتواضع لله بخدمتهم؛ ثم هي تستجلب رضا الله على العبد.
فمن رحمة الله -تعالى- بالمتصدق أن يذهب الله -تعالى- عنه بصدقته ذلك الكبر، وهذا من فضل الله -تعالى- على أهل الطاعات أن يكافئهم بالمزيد.
فائدة: والصدقة كذلك تنجيك من غضب الله -تعالى- عليك يوم القيامة وتقيك من النار، أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ).
3- التفكر في أمر المتكبرين وعاقبتهم وحال المتواضعين وفضيلتهم:
بيان فضيلة التواضع:
التواضع ضد الكبر، وحقيقته أن ينزل نفسه عن مرتبة يستحقها؛ فإن فعل ذلك لله -تعالى- ناله العز في الدنيا والآخرة "ذكره في تحفة الأحوذي".
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ) (رواه مسلم).
ونقلت آثار كثيرة تبين حال السلف مع التواضع وحرصهم عليه، ولقد ورد عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "ثلاث هن رأس التواضع، أن يبدأ بالسلام من لقيه، ويرضى بالدون من شرف المجلس، ويكره الرياء والسمعة".
أخرج البيهقي عن ابن المبارك قال: "من التواضع أن تضع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا، حتى تعلمه أنه ليس لك فضل عليه لدنياك، وأن ترفع نفسك عند من هو فوقك في دنياه، حتى تعلمه أنه ليس لدنياه فضل عليك".
وقيل: "رأس التواضع أن تكره أن تذكر بالبر والتقوى".
وروي عن ابن عباس مرفوعًا: "من التواضع أن يشرب الرجل من سؤر أخيه".
قال الحافظ السيوطي في الدر المنثور: أخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن سويد بن مقرن قال: كنا بني مقرن سبعة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولنا خادمة ليس لنا غيرها، فلطمها أحدنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أعتقوها. فقلنا: ليس لنا خادم غيرها يا رسول الله. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَلْيَسْتَخْدِمُوهَا فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهَا فَلْيُخَلُّوا سَبِيلَهَا).
ولقد بيَّن العلماء أن استعمال الشدة مع الخدم ونحوهم قد يكون سببه الكبر، وأن التلطف بهم وحسن الخلق علامة على التواضع؛ فقال النووي في شرحه للحديث كما في شرح مسلم: "وفيه: الرفق بالموالي واستعمال التواضع".
وعن أبي مسعود الأنصاري قال: بينا أنا أضرب غلاما لي، إذ سمعت صوتا من ورائي، فالتفت فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلامِ) قَالَ: فَقُلْتُ لا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا (رواه مسلم).
وأخرج عبد الرزاق عن الحسن قال: بينا رجل يضرب غلاما له وهو يقول: أعوذ بالله وهو يضرب، إذ بصر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أعوذ برسول الله. فألقى ما كان في يده وخلى عن العبد. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما والله لله أحق أن يعاذ، من استعاذ به مني؟ فقال الرجل: يا رسول الله فهو لوجه الله. قال: والذي نفسي بيده لو لم تفعل لواقع وجهك سفع النار".
4- الزهد في الدنيا ومظاهرها يورث التواضع، وهو علاج مهم للكبر في النفس:
الزهد هو: قلة الرغبة في الشيء، وإن شئت قلتَ: قلة الرغبة عنه.
وقال بعضهم: بغض الدنيا والإعراض عنها، وقيل: ترك راحة الدنيا لراحة الآخرة، وقيل: أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك. وقيل: بذل ما تملك ولا تؤثر ما تدرك. وقيل: ترك الأسف على معدوم، ونفي الفرح بمعلوم. قاله المناوي في تعريفاته.
والورع: تجنب الشبهات خوف الوقوع في محرّم، وقيل: ترك ما يريبك ونفي ما يعيبك؛ وقيل: الأخذ بالأوثق وحمل النفس على الأشق؛ وقيل: النظر في المطعم واللباس، وترك ما به بأس. وقيل: تجنب الشبهات، ومراقبة الخطرات.
وميزة الزاهد في الدنيا أنه يكتفي منها بالقليل وتصغر في عينه، فلا ينافس عليها ولا يفتخر بما أصابه منها، وكل ذلك يورث التواضع ويعالج الكبر؛ فمن أراد علاج الكبر فلابد أن يعالج حب الدنيا في نفسه، وأن يتزين بالتواضع والزهد في ملبسه ومطعمه، وعموم سلوكه.
أخرج أحمد والحاكم والنسائي في السنن الكبرى، وصححه الألباني، عن جابر بن سليم الهجيمي قال: لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، وَعَلَيْهِ إِزَارٌ مِنْ قُطْنٍ مُنْبَتِرُ الْحَاشِيَةِ، فَقُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلامُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: (إِنَّ عَلَيْكَ السَّلامَ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى، إِنَّ عَلَيْكَ السَّلامَ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى، إِنَّ عَلَيْكَ السَّلامَ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى، سَلامٌ عَلَيْكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ) مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا هَكَذَا قَالَ. سَأَلْتُ عَنِ الإِزَارِ؟ فَقُلْتُ: أَيْنَ أَتَّزِرُ؟ فَأَقْنَعَ ظَهْرَهُ بِعَظْمِ سَاقِهِ، وَقَالَ: (هَاهُنَا اتَّزِرْ، فَإِنْ أَبَيْتَ، فَهَاهُنَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَبَيْتَ، فَهَاهُنَا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟ فَقَالَ: (لا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ، وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْطَلِقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوَحْشَانَ فِي الأَرْضِ، وَإِنْ سَبَّكَ رَجُلٌ بِشَيْءٍ يَعْلَمُهُ فِيكَ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ فِيهِ نَحْوَهُ، فَلا تَسُبَّهُ فَيَكُونَ أَجْرُهُ لَكَ وَوِزْرُهُ عَلَيْهِ، وَمَا سَرَّ أُذُنَكَ أَنْ تَسْمَعَهُ فَاعْمَلْ بِهِ، وَمَا سَاءَ أُذُنَكَ أَنْ تَسْمَعَهُ فَاجْتَنِبْهُ).