رسالة من شجرة توت
رسالة من شجرة توت
لم أكن أحب التوت إلا أنني الآن أعشقه حد الولع، منذ أن حدثني عمي عن شجرة توت قابلها في حرب أكتوبر المجيدة- عندما هب المارد المصري من غفوته فانتفضت الجموع الغفيرة من سباتها العميق تلبية لأوامره وانتفاضا لمؤازرته ، كان عمي خريج كلية الحقوق في ذلك الحين لا زال جنديا في سلاح المشاة- لم يبلغ الثانية والعشرين من عمره حين جاءتهم الأوامر بالعبور والتوغل في صحراء سيناء فهب عمي مع كتيبته تنفيذا للمهام التي كلفوا بها وبينما هم يتوغلون في سيناء بعد مضي ثماني ساعات من بدء الحر ب طالعتهم شجرة التوت .
لم يكن ولعهم بالتوت هو الذي استوقفهم ولا صيامهم لذلك اليوم العاشر من رمضان ولا حتى تناسيهم الإفطار في غمرة نشوتهم العارمة بالنصر، ولكن شجرة التوت المواجهة لمعبر رفح- الفاصل بين حدود مصر وفلسطين - هي التي استوقفتهم بتلك الهيئة الشامخة التي اتخذتها وتلك المساحة الشاسعة التي احتلتها من سيناء المحتلة وكأنها تأبى أن تٌحتل أرض العروبة فامتدت بجذورها تستعيد بنفسها ما أضاعته حماقات الشعوب ،يقسم عمي أنه لم يذق في حياته ثمارا للتوت بتلك الحلاوة التي ذاقها عندما امتدت يديه تقطف من تلك الشجرة بل يقسم أنه تناول منها بشرهٍ وكأنها وجبته الأخيرة في الدنيا.
كنت كل مرة أفتح الحديث مع عمي عن حرب أكتوبر لولعي بمعرفة لا مرئيات الحرب –تلك الجوانب التي تغافلت عنها الكتب العسكرية ووسائل الإعلام – أول جندي وطأ الأرض بقدميه بم شعر؟ كيف تهادت نسائم الحرية تداعب قلوب الجنود - تلك المشاعر التي خالجت عمي عندما فقد زملائه على تراب سيناء فتناسهم ليرد لمصر كرامتها ، لكنني كل مرة كنت أحظى بالقليل الذي لا يٌسمن ولا يغني من جوع ثم سرعان ما يتقمص عمي دور قيس بن الملوح وينشد غزلياته في شجرة التوت .
وكأن حمى العشق قد انتقلت إلي من عمي فرٌحت أهذي بحب شجرة التوت ولا أرضى بغيرها حبيبة –تأتي أمي بالتوت من السوق أشكالا وألوانا ألتهمه بضراوة فتهدأ الحمى قليلا ثم تعاودني أشد من ذي قبل ،مما دفعني لأكتب لصديقٍ لي يسكن بالقرب من العريش أستجديه أن يذهب إلى شجرة التوت ويخبرني عنها وكأنني أختبر أن حبيبة عمي ليست من بنات خياله –ما هي إلا ساعات وطارت إلي رسالة الكترونية من صديقي بعنوان " حكايات شجرة التوت " بدأها ببيت غزلي من الشعر فعلمت دون أن أكمل الرسالة أن قوافل المحبين قد ازدادت واحدا ثم تابعت القراءة فزادتني رسالته تمسكا بها عندما استطرد قائلا:فعلت الشجرة ما لم تفعله الأمم بحضاراتها يمٌر عليها الركبان فتهديهم ثمارها الرطبة دون النظر إلى أنسابهم ثم يهدونها ما تبقي في قنانيهم من ماء وربما نهلوا منها فلم تحظ منهم بكلمة شكرا .
بت كالولهان أجالس القمر كل ليلة أبثه شوقي إليها لعله يفضحني حين يراها فينقل إليها خبري وينقل إلي ريحا تنفستها أو نسمة داعبتها، لكن أتت الرياح بما لم تشتهيه سفينتي ، ضٌرب الحصار بين مصر وفلسطين وتصاعدت الأمور بشكل خطير وبات من الصعب أن أترك حبيبتي وحدها ،طرت إليها نافضا عن جسدي غبار الخوف – تسللت إليها تحت ضوء القمر- احتضنتها لأول مرة -داعبت صلابة أخشابها - تقت إلى تذوق طعامها الشهي الذي حدثني عمي عنه فاقتطفت منها بضع حبيبات، وفاجئني طعمها العلقمي منذ الحبة الأولى فلفظتها من فمي وقلبي يتقد نارا على عمي لكذبه علي طيلة تلك السنوات، لكنني سرعان ما تناسيت غضبي عندما طالعني منظر عصفور صغير يلتهم الحبيبات بتلذذ -نظرت إليه بدهشة فتوقف عن الأكل وراح يزقزق بصوته الندي وكأنه ينقل إلي رسالة من شجرة التوت أحسبها تقول ـ أنا لن أكون ظلا لخسيس ولا طعاما سائغا لمن باع الوطن برخيص " .
ما هي إلا لحظات حتى اشتد القصف وتناثرت أجزاء العصفور في الهواء أثر قصف الشجرة وطاولتني رصاصتين في ذراعي وأنا أحاول الذود عنه لكنني فشلت ثم لمحت أثناء ركضي شجرة التوت وكأن وريقاتها تتراقص تبسما في وجهي عندما أحست خوفي عليها ونسائم المروءة تتطاير من جسدي وكأنها تهمس في أذني " سأبقى ثمارا تتوق إليك عندما تعود لتدحر الأعداء بين رحى كفيك .