هذه صورة لعماد المهدى مع فضيلة الشيخ محمد حسان فى بيته فى المنصورة
* الصدمة الأولى: بعد هذا الموقف بعدة أيام رجعت من المدرسة فلم أجد أمي، ولم أجد ملابسها، ولم أجد أحداً في المنزل. شعرت ساعتها بوحشة الفراق، وغربة البعاد، بعاد الأم الغالية، وقد خيّمت عليّ الكآبة، واستولى عليّ الخوف من المستقبل، وتمنيت لو كان ذلك حلماً ولم يكن حقيقة، ذهبت على الفور لدكان أبي وقلت له: يا أبي – عدت فلم أجد أمي في المنزل: قال: لعلها عند إحدى صديقاتها.. قلت: يا أبي – حتى ملابسها لم أجدها بالدولاب. قال الأب: ماذا تقول يا عماد ؟ فكررتُ، وهنا ازداد تعجب أبي وقام مندهشاً . وذهب معي على الفور إلى المنزل – إنها الصدمة أين أمك ؟ أين ؟ … أين ؟ واقسم أنه لم يغضبها ولم يقع بينهما ما يوجب الخلاف أو الغضب ، وشملت الصدمة كل أفراد العائلة ، إنها أسلمت وأعلنت إسلامها أمام الجهات المسؤولة ولن تعود إلى البيت أبداً … !! جُنّ جنون العائلة كلها وفقدت توازنها، وصارت تقول في حق الإسلام والمسلمين كل ما يقال من ألفاظ السب والشتم واللعن وصار الجميع ( الوالد والأعمام والأخوال ) في حالة عصبية شديدة جداً، انفعالية في الكلام حتى فيما بينهم، واعتبروها كارثة وعاراً ألحق بالعائلة كلها نزل بهم وحل عليهم جميعاً . وكان من بين البلاء الذي حل عليّ وقتها أن أمي كانت تُشتم وتُسب بأفظع الشتائم من أقرب الأقارب والأخوال والأعمام ، وكانوا دائماً يقولون إنها كانت تشبه المسلمين في كذا وكذا . ومنهم من كان يقول بنت كذا وكذا تركَتْ أولادها وذهبت إلى الإسلام. كنت أسمع ذلك وأشاهده ولم أستطع الرد ولا الدفاع عنها ، ولكن العم كان يذهب إليها في الجهات المختصة ليوقع الإقرار تلو الإقرار بعدم التعرض لها. ولما كان يلقاها كان يتعطفها كي تعود إلى ولديها لشدة حاجتهما إليه .
* حلاوة الإيمان : لكن أمي رفضت هذا الإلحاح بشدة بعدما ذاقت حلاوة الإيمان، وأسلمت – والحمد لله رب العالمين – وتركتنا وديعة عند من لا تضيع ودائعه – سبحانه وتعالى – خير حافظ وأفضل معين ، وهو أرحم الراحمين .
* موقف الكنيسة : كنت أتردد على الكنيسة وأحضر جميع دروسها ولا سيما درس الثلاثاء ، كان درساً معروفاً لدى الجميع في الكنيسة ، ويحاضر فيه القس بنفسه محاضرة عامة تتعلق بموضوعات شتى ، خاصة المحاضرات السياسية . ويتحدث فيه بحرية ويبدي آراءه دون حسيب أو رقيب عليه في حديثه . وخلال درس من دروس الثلاثاء هذا تعرض في حديثه إلى موضوع أمي لأنه كان موضوع الساعة وقتها ، والكل يتحدث عنه في الكنيسة . فقال هذا القس : ( تذكرون فلانة الفلانية وذكر اسمها ) التي استسْلَمت للشيطان وأعلنت إسلامها وخانت المسيح والمسيحية ، - وباعت أولادها - ، وباعت نفسها للمسلمين ، وتركت الطهارة وذهبت إلى { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } [الكهف: 5].
* وصمة عار : المرأة التي تركت المسيح الإله المخلص[5] لهذا الكون أراد المسيح نفسه أن يفضحها بعد أن خانت الكنيسة وهي الآن ملقاة في السجن في قضية من قضايا الآداب .. ؟؟ هنا أصابني الذهول وكادت نظرة الحاضرين أن تقتلني ، وكأنني ارتكبت أشنع الجرائم الخلقية، كأني ارتكبت جريمة الزنا والعياذ بالله. قلت : هذا غير معقول ؟ أمي تجازف بترك دينها وترك عبادة المسيح وتتركنا أنا وأختي هنا نواجه كل هذا البلاء ولا ذنب لنا، كرهت نفسي وتمنيت أن الموت يأتيني في كل لحظة، وخرجتُ من الكنيسة ويعلم الله أني لا أدري كيف أسير في الشارع تكاد عيني لا ترى أحداً من الناس، وبينما أنا على هذه الحال من الكآبة والحزن الشديد سمعت صوتاً ينادي عليّ عماد ( عمدة )[6] فرأيت أمي كانت تسير دائماً قرب منزلنا لترانا أنا وأختي على حذر، وأرْسَلت امرأة من الجيران في منزلنا لهذا الغرض وعَلِمتْ أني في الكنيسة واقترب موعد رجوعي فانتظرتني عند عودتي تسعد بلقائي ، وقتها شَعُرت بصراع شديد في داخلي، ومجموعة من المشاعر المتضاربة، إنها أمي الحبيبة الحنونة ! ... إنها السيدة التي باعت المسيح ولا بد من الانتقام منها ... وسط هذا التفكير لم اسمع منها أي كلمة من شدة ذهولي .. والتفتُّ لها وقلت متى خرجت من السجن! كانت معها مجموعة من زميلاتها في مجال التمريض ولفيفٌ من الجيران المسلمين وقالت : بل قالوا جميعاً ( سجن إيه ) ! أمك فضّلت الآخرة على الدنيا . قالت أمي : ( عمدة ابني حبيبي ) ألم أقل لك إنهم سوف يرمونني بالتهم ، خذ هذه الورقة فيها عنواني على أن تتعهد لي بأن لا تعطي هذا العنوان لأحد. وسلّمتُ عليها وقبلتها ، وكان من بين الحاضرين رجل ملتح ، وزوجته منقبة ، قال هداك الله ووضع يده على كتفي لكنني نزعتها بعنف وشدة، وتركت أمي ورجعت إلى منزلنا المظلم[7] رأيت أختي (هبة) لكنها كانت صغيرة لم تع أو تفهم ما يدور من حولنا ، نظرتُ إليها وقلت : ما ذنب الأبناء بما يفعله الآباء . كلمة سمعتها من مدرس نصراني تعليقاً على موضوعنا.
أصبح أمامي موضوع هام جداً وهو زيارة أمي في منزلها ، وكان قد مر على لقائي بها وإعطائي العنوان المذكور ستة أيام تقريباً وكان ذلك قبيل المغرب . من هنا اخترق نور الإيمان قلبي المظلم[8] ؟ عندئذ ذهبت إلى أمي لزيارتها في منزلها فاستقبلتني استقبالاً رائعاً وجلستُ أنظر إلى منزلها المتواضع ذي الفرش البسيط ، ووسط هذه النظرات السريعة إذ بالمنادي ينادي : ( الله أكبر ... الله أكبر ... ) الأذان . والله الذي لا إله غيره كأني أسمع هذا الأذان لأول مرة في حياتي رغم سماعي لهذا الأذان مئات المرات، ولكن كان لهذا الأذان في هذه اللحظة بالذات وقع عظيم في قلبي لم أشعر به من قبل. قامت أمي من جواري على الفور وذَهَبَتْ فتطهرَّتْ وتوضّأت ثم دخلت في صلاة المغرب وجعلت تتلو القرآن في الصلاة بصوت مسموع ، وكنت لأول مرة أسمع القرآن من أمي ، إنها سورة (الإخلاص) وكان ذلك الموقف لا يوصف كان له أثر طيب على مشاعري ، تمنيت أن أجلس على الأرض وأقبل قدمَي أمي وهي تصلي ، شعرت بشيء ما يغسل قلبي ، دخل عليّ صفاء وحب امتلكني . شعور غريب ، إنها روح جديدة تسري في جسدي ، واجتمعت في نفسي إشعاعات النور وشعرت بإشراق شمسِ يومٍ جديد بعد الغيوم القاتمة وظلام الليل الدامس . غلب علي البكاء بمدى الظلم الذي وقع عليها من ذاك القس في درس الثلاثاء الماضي ، تمنيت أن أرى هذا القس ليأخذ جزاءه مني فقد اعتدى على أمي .. !! دون أي وجه حق لماذا يشوه سيرتها ؟! أهذا عدل ؟ أبذلك أمر المسيح ؟ هل هذا هو القس الذي يعترف له المُذنب ؟ هل هذا هو قدوة المجتمع النصراني من الداخل .. ؟! كل هذه تساءلات كانت في حاجة إلى إجابة ..
* تغير واضح: جلست مع أمي ما يقرب من ساعة ونصف وأحضرت لي طعاماً وأكلتُ معها كان هذا اليوم وهذه الزيارة كأنها حلم جميل ، لا أكاد أصدق أن هذا قد حدث وأن له واقع ملموس.
يتبع ان شاء الله