وفاة العرب
نزار قباني و غازي القصيبي
متى يعلنون وفاة العرب؟
نزار قباني
أحاولُ منذ الطُفولةِ رسْمَ بلادٍ
تُسمّى - مجازا - بلادَ العَرَبْ
تُسامحُني إن كسرتُ زُجاجَ القمرْ...
وتشكرُني إن كتبتُ قصيدةَ حبٍ
ككلّ العصافير فوق الشجرْ...
أحاول رسم بلادٍ
تُعلّمني أن أكونَ على مستوى العشْقِ دوما
فأفرشَ تحتكِ ، صيفا ، عباءةَ حبي
وأعصرَ ثوبكِ عند هُطول المطرْ...
أحاولُ رسْمَ بلادٍ...
لها برلمانٌ من الياسَمينْ.
وشعبٌ رقيق من الياسَمينْ.
تنامُ حمائمُها فوق رأسي.
وتبكي مآذنُها في عيوني.
أحاول رسم بلادٍ تكون صديقةَ شِعْري.
ولا تتدخلُ بيني وبين ظُنوني.
ولا يتجولُ فيها العساكرُ فوق جبيني.
أحاولُ رسْمَ بلادٍ...
تُكافئني إن كتبتُ قصيدةَ شِعْرٍ
وتصفَحُ عني ، إذا فاض نهرُ جنوني
رَحَلتُ جَنوبا...رحلت شمالا...
ولافائدهْ...
فقهوةُ كلِ المقاهي ، لها نكهةٌ واحدهْ...
أحاول منذ البداياتِ...
أن لاأكونَ شبيها بأي أحدْ...
رفضتُ الكلامَ المُعلّبَ دوما.
رفضتُ عبادةَ أيِ وثَنْ...
أحاول إحراقَ كلِ النصوصِ التي أرتديها.
فبعضُ القصائدِ قبْرٌ
وبعضُ اللغاتِ كَفَنْ.
أحاول أن أتبرّأَ من مُفْرداتي
ومن لعْنةِ المبتدا والخبرْ...
وأنفُضَ عني غُباري.
وأغسِلَ وجهي بماء المطرْ...
أحاول من سلطة الرمْلِ أن أستقيلْ...
وداعا قريشٌ...
وداعا كليبٌ...
وداعا مُضَرْ...
أحاول رسْمَ بلادٍ
تُسمّى - مجازا - بلادَ العربْ
رأسي بها ثابتٌ
لكي أعرفَ الفرقَ بين البلادِ وبين السُفُنْ...
ولكنهم...أخذوا عُلبةَ الرسْمِ منّي.
ولم يسمحوا لي بتصويرِ وجهِ الوطنْ...
أحاول منذ الطفولةِ
فتْحَ فضاءٍ من الياسَمينْ
ألغيتُ كل الحروب القديمةِ..
.
بين الرجال...وبين النساءْ...
وبين الحمامِ...ومَن يذبحون الحمامْ...
وبين الرخام ومن يجرحون بياضَ الرخامْ...
فيا لَلعجبْ!!
أحاول أن أتصورَ ما هو شكلُ الوطنْ
أحاول أن أستعيدَ مكانِيَ في بطْنِ أمي
وأسبحَ ضد مياه الزمنْ...
وأركضَ مثل العصافير خلف السفنْ.
أحاول بالشعْرِ...أن أُمسِكَ المستحيلْ...
وأزرعَ نخلا...
ولكنهم في بلادي ، يقُصّون شَعْر النخيلْ...
أحاول أن أجعلَ الخيلَ أعلى صهيلا
ولكنّ أهلَ المدينةِ يحتقرون الصهيلْ!!
أحاول - مذْ كنتُ طفلا ، قراءة أي كتابٍ
تحدّث عن أنبياء العربْ.
وعن حكماءِ العربْ... وعن شعراءِ العربْ...
فيا للعَجَبْ!!
أنا منذ خمسينَ عا ما
أراقبُ حال العربْ.
وهم يرعدونَ ، ولايمُطرونْ...
وهم يدخلون الحروب ، ولايخرجونْ...
وهم يعلِكونَ جلود البلاغةِ عَلْكا
ولا يهضمونْ...
أنا منذ خمسينَ عاما
أحاولُ رسمَ بلادٍ
تُسمّى - مجازا - بلادَ العربْ
رسمتُ بلون الشرايينِ حينا
وحينا رسمت بلون الغضبْ.
وحين انتهى الرسمُ ، ساءلتُ نفسي:
إذا أعلنوا ذاتَ يومٍ وفاةَ العربْ...
ففي أيِ مقبرةٍ يُدْفَنونْ؟
ومَن سوف يبكي عليهم؟
وليس لديهم بناتٌ...
وليس لديهم بَنونْ...
وليس هنالك حُزْنٌ ،
وليس هنالك مَن يحْزُنونْ!!
أحاولُ منذُ بدأتُ كتابةَ شِعْري
قياسَ المسافةِ بيني وبين جدودي العربْ.
رأيتُ جُيوشا...ولا من جيوشْ...
رأيتُ فتوحا...ولا من فتوحْ...
وتابعتُ كلَ الحروبِ على شاشةِ التلْفزهْ...
فقتلى على شاشة التلفزهْ...
وجرحى على شاشة التلفزهْ...
ونصرٌ من الله يأتي إلينا...على شاشة التلفزهْ...
أيا وطني: جعلوك مسلْسلَ رُعْبٍ
نتابع أحداثهُ في المساءْ.
فكيف نراك إذا قطعوا الكهْرُباءْ؟؟
أنا...بعْدَ خمسين عاما
أحاول تسجيل ما قد رأيتْ...
رأيتُ العروبةَ معروضةً في مزادِ الأثاث القديمْ...
ولكنني...ما رأيتُ العَرَبْ!!...